ما تحتاجه اليوم مصر ليس الرئيس اولا، ولا الدستور اولا.. انما تحتاج العقل اولا، وتحديدا من كل الفرقاء السياسيين وجميع النخب السياسية، التي أغرقتنا في فوضي من الاقتراحات والاقتراحات المضادة، تطلقها علينا بشكل مستمر منذ ان تم اجبار مبارك علي التنحي.. واذا كان المجلس الاعلي للقوات المسلحة يتعرض للانتقاد بسبب اخطاء صاحبت ادارته للمرحلة الانتقالية، فان من يطلقون هذه الانتقادات ارتكبوا هم ايضا اخطاء أربكت المرحلة الانتقالية وساهمت في تأزيمها.. وربما كان ابرز اخطائها التضليل السياسي للشباب الذين تقدموا الصفوف يوم 52 يناير 1102، وذلك بافكار تتناقض مع جوهر الاهداف التي خرجوا في هذا اليوم ينشدونها ويعرضون انفسهم للموت أو الاصابة أو الاعتقال من اجلها. فها هم الذين افزعهم تمكن الاخوان والسلفيين من اغلبية مقاعد البرلمان يتحمسون لاقتراح نخبوي مباغت يقضي بتسليم المجلس العسكري السلطة لرئيس البرلمان، وهو احد قيادات الاخوان، الذين يتوجسون مما قد يقومون به بعد ان دانت لهم سلطة التشريع.. وعندما رفض رئيس البرلمان وحزبه وجماعته تسلم السلطة بهذه الطريقة عاد هؤلاء ليتحمسوا لاقتراح اخر نخبوي مفاجيء ايضا يقضي بان يتولي البرلمان الذي يسيطر عليه الاخوان والسلفيون، انتخاب رئيس مؤقت يتسلم السلطة من المجلس العسكري، وليدير المرحلة الانتقالية لفترة تمتد من ستة اشهر الي عام كامل. ويعتقد بعض هؤلاء بسذاجة سياسية غريبة ان البرلمان بتركيبته الحالية سوف يختار لهم رئيسا توافقيا، مع ان الاخوان منذ اللحظة الاولي كشروا عن انيابهم البرلمانية وسعوا للسيطرة علي رئاسة معظم اللجان البرلمانية. والمثير للدهشة انه مازال هناك من يتحمسون لهذا الاقتراح القاضي بانتخاب رئيس مؤقت، رغم انهم يشكون مما يسمونه خيانة الاخوان للثور، وشاركوا في الهتاف ضدهم في التحرير وخارجه والهجوم عليهم في الفضائيات بدعوي انهم يبغون الهيمنة السياسية للبلاد. ولعل هذا يذكرنا بحماس بعض هؤلاء لتولي رئيس المحكمة الدستورية العليا السلطة من المجلس العسكري فورا، في الوقت الذي يتحدثون بغزارة الان عن عدم ثقتهم في القضاء ويطالبون بتطهيره، بسبب عدم رضائهم عن سير محاكمات الرئيس السابق ومعاونيه، وايضا بسبب صدمتهم في بعض الاحكام التي اصدرها القضاء ببراءة بعض المتهمين بقتل المتظاهرين.. فكيف نسلم المسئول الاول في السلطة القضائية السلطة التنفيذية ونحن غير مطمئنين لهذه السلطة ونشك في نواياها.. ام اننا سوف نطالب رئيس المحكمة الدستورية بان يكون رئيسا فخريا للجمهورية ونفرض عليه تشكيل حكومة نرشح له رئيسها، واذا رفض نتهمه فيما بعد بخيانة الثورة أو العمالة للنظام السابق؟! كذلك هاهم ايضا الذين خاضوا معركة واسعة، مازلنا نتذكر اصداءها، حول اسبقية الدستور اولا قبل الانتخابات يناقضون انفسهم ويتحمسون لانتخاب الرئيس اولا قبل الدستور.. وحجة هؤلاء انهم يريدون التخلص من وجود ونفوذ المجلس العسكري اثناء صياغة الدستور الجديد، حتي لا يمنح هذا الدستور للجيش وضعا خاصا.. وهذا التناقض الصارخ يعكس ارتباكا في التفكير والتصرف السياسي. ففي الوقت الذي يريد فيه هؤلاء التخلص من وجود ونفوذ المجلس العسكري اثناء صياغة الدستور، فانهم يسلمون في ذات الوقت بانفراد الاخوان ومعهم السلفيين بالوجود والنفوذ في هذا الصدد.. وهم لم يفكروا في ان من الحصافة السياسية استثمار وجود المجلس العسكري لموازنة وجود الاخوان والسلفيين، حتي نظفر بلجنة تأسيسية توافقية لاعداد هذا الدستور، وايضا حتي نضمن صياغة دستور لا يجور فيه الاخوان والسلفيون علي حقوق المواطنين الاساسية.. والغريب ان هذا يحدث في وقت لا يكف فيه هؤلاء عن الشكوي من رؤي اخوانية وسلفية تبعدنا عن الدولة المدنية وتقربنا من الدولة الدينية التي يرفضها هؤلاء.. اي انهم من وجهة نظرهم يلوذون بالرمضاء من النار. واستثمار وجود المجلس العسكري هنا ليس من قبيل الوهم السياسي لان هذا المجلس سبق له ان ابدي انحيازه للدولة المدنية.. بينما مخاصمته أو معاداته والتشهير به وبقياداته والتعامل معهم وكأنهم امتداد لنظام مبارك اضعف المجلس امام الاخوان والسلفيين وضيق مساحات المناورة السياسية امامه. وحتي لو سلمنا برغبة المجلس العسكري بالحصول علي نفوذ سياسي ووضع خاص للجيش في الدستور فان معارضة القوي السياسية رغم اختلافها لذلك أقتنع المجلس بصعوبة ذلك.. وهو ما دفع المشير طنطاوي لاعلان ان وضع الجيش في الدستور الجديد لن يختلف عن وضعه في الدستور القديم، واقترن ذلك بتعديل المادتين الخاصتين بوضع الجيش في ورقة المباديء العامة للدستور المعروفة بورقة علي السلمي. وهكذا.. تخبط النخبة استمر منذ اليوم الاول للمرحلة الانتقالية التي نعيشها منذ 11 فبراير الماضي.. اي منذ ان طالبت هذه النخب بإطالة هذه الفترة لنحو عامين ثم لامت المجلس العسكري علي استجابته لها فيما بعد.. وطوال الوقت لم يتوقف هذا التخبط النخبوي الذي كان يقفز بها من موقف إلي نقيضه والتمسك به والاصرار عليه. وليس مستساغا أو مقبولا التبرير الذي يقدمه البعض لهذا التخبط والقول بانه متعمد لوضع المجلس العسكري تحت ضغط دائم، حتي لا يتردد في تسليم السلطة في نهاية المرحلة الانتقالية.. لان ممارسة الضغط يمكن ان تتم بطريقة مختلفة لا تثير ارتباكا أو قلقا عاما، وايضا لا يلحق الضرر بالهدف الاساسي، وهو ارساء دعائم دولة مدنية ديمقراطية ولا يمنح الذين لا يتحمسون لهذه الدولة تأثيرا ونفوذا سياسيا اضافيا سوف يؤثر بالسلب علي صياغة الدستور الجديد. لذلك.. يصبح الشعار الاجدي الان الذي يتعين رفعه وتطبيقه والعمل به هو »العقل اولا« وليس الرئيس اولا أو الدستور اولا.. فان الاحتكام للعقل سوف يجعل نخبنا السياسية تتروي في الاطلاق المباغت لافكار ومقترحات لا تساعد علي إنهاء المرحلة الانتقالية بسلام.. واذا كنا سوف نظفر برئيس منتخب بعد بضعة اشهر قليلة فلماذا نبحث الآن لانفسنا عن رئيس مؤقت المؤكد انه لن يكون توافقيا؟ واذا كان البعض منا ليس مطمئنا لتنفيذ المجلس وعده بتسليم السلطة فإننا يجب ان نثق في انفسنا وبقدرتنا علي إلزامه بذلك.