لا يختلف الصخب الإعلامي الدائر حاليًا حول إجراء الانتخابات البرلمانيَّة أولا أم وضع دستور جديد أولا، عن ذلك الجدل الذي عرفته مصر أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستوريَّة في مارس الماضي، فأصحاب الصوت الأعلى كانوا من أنصار رفض التعديلات، لكن الشارع صوَّت بأغلبيَّة كاسحة لصالح التعديلات. ورغم أن العقلاء من معارضي التعديلات أعلنوا خضوعهم لقرار الشعب، واعترفوا بأنهم أخطأوا عندما شغلوا أنفسهم بمناقشات نخبويَّة ولم يبذلوا الجهد الكافي لتوضيح موقفهم لرجل الشارع البسيط، إلا أن البعض ما زال مصِرًّا على تكرار نفس الخطأ، فمن يطالبون ب "الدستور أولا" يخلعون على موقفهم الكثير من صفات "الوطنيَّة" و"الوفاء لدماء الشهداء" و"مطالب الثورة"، في حين يوصف الفريق الآخر، الذي يرى أن الاستفتاء على التعديلات الدستوريَّة رسم "خريطة طريق" يجب الالتزام به، ب "الانتهازيَّة" و"خيانة الثورة ودماء الشهداء" من أجل الفوز بحفنة مقاعد في البرلمان. عراك سياسي ومن الجليّ أن معظم القوى والأحزاب الليبراليَّة واليساريَّة تؤيِّد "الدستور أولا"، باستثناء بعض المواقف الفرديَّة لنشطاء مثل د. عمرو حمزاوي وغيره، وفي المقابل تنحاز الأحزاب والتيارات الإسلاميَّة لخيار "الانتخابات أولا"، ويتمسَّك كل طرف بأسانيد موقفه، دونما سعي جدي لبحث اقتراحات بحلول وسط، من قبيل طرح وثيقة توافقيَّة تتضمن المبادئ الرئيسيَّة لأي دستور جديد، على غرار ما فعل د. محمد البرادعي، وبذلك تضمن جميع القوى ألا تؤدي نتائج الانتخابات البرلمانيَّة، مهما كانت، لانفراد حزب أو تيار بعينه، بصياغة الدستور، باعتبار أنه يجب أن يكون توافقيًّا، ويراعي التباينات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة لأي مجتمع. وإذا كان العراك السياسي، وما يصحبه من صخب إعلامي، من الأمور المعتادة في أي لعبة ديمقراطية، إلا أن اللافت في الساحة المصرية هو تلك الفجوة الهائلة بين النخبة، إعلاميًّا وسياسيًّا، وبين رجل الشارع العادي، فمثلا انحازت معظم وسائل الإعلام، ومعها كبار الكتاب والمعلِّقين ومقدمي برامج التوك شو، للجبهة الرافضة للتعديلات الدستوريَّة، وعندما جاء التصويت الشعبي بعكس ذلك، لم يسلمْ جل هؤلاء بالأمر الواقع، بل سَعَوا للتشكيك في وعي الشارع وقدرته على اتخاذ القرار الصحيح، من خلال الادِّعاء بسيطرة توجهات دينيَّة على خيارات الناخبين، ورغم أن البعض بالفعل استخدم الدين، مسيحيًّا وإسلاميًّا، بشكلٍ خاطئ ومسيء لتدعيم موقفه، إلا أن هذا الأمر لم يكن هو النقطة الفارقة أو المبرِّر الوحيد لتأييد التعديلات، كما أن خيار الشعب يجب أن يُحترَم مهما كانت السياقات، وإلا تحوَّل الأمر لنوع من "الوصاية" على الشارع. غياب فاضح ورغم أنه يمكن تفهُّم محاولة البعض إعادة تغليف مواقفه بشكلٍ جديد، والانتقال من معركة الاستفتاء لافتعال معركة "الدستور أولا"، إلا أن الأمر المستغرب هو عجز القوى المؤيدة للاستفتاء عن اتخاذ خطوات فعليَّة تقودها للمشاركة في وضع أجندة النقاش المجتمعي، وفقًا للخريطة التي نصَّت عليه التعديلات، لتظلَّ هذه الأجندة في يد تيار بعينه، يديرها وفقًا لرؤيته وتوجهاته الفكريَّة، ومن المستغرَب أن هذا التيار، رغم ما يدعيه من ديمقراطيَّة وليبراليَّة، إلا أن البند الأبرز على أجندته هو تجنُّب أي خيار يتضمن الاحتكام إلى رأي الشارع، فهو يريد تأجيل الانتخابات؛ لأنها ببساطة سوف تكشف حجمه الحقيقي، وتنهي احتكاره للحديث باسم الثورة والشهداء. أما الفريق الآخر، والذي يمثِّل الإسلاميون شريحةً معتبرةً منه، فإنه انشغل بإعادة تنظيم صفوفه الداخليَّة، بعدما عانى طويلا من الحرمان السياسي والمطاردة الأمنيَّة، وتجاهل، أو بالأدق استعلى، عن المشاركة في الحوار المجتمعي، معتبرًا أن أصوات الشارع "في جيبه" وأنه سوف يكتسح أي انتخابات مقبلة، اعتمادًا على ما جرى في الاستفتاء الأخير، وللأسف فإن هذا الافتراض محلّ شكوك الكثيرين، الذين يرون أن المجتمع المصري بعد الثورة أشبه ب "أرض بكر" وأن نظرية الأقلية المنظَّمة، التي تحسم أي استحقاق انتخابي في ظل "أغلبيَّة صامتة"، أصبحت جزءًا من التاريخ، ومن الخطأ المراهنة عليها مجددًا. رمال متحركة كما فات هؤلاء أنه في السياسة لا توجد "أرض صلبة" يمكن لفصيل أو حزب سياسي الادِّعاء بأنه يمتلكها، بل إن الساحة بأكملها "رمال متحركة"، ومن يجيد السير عليها بخطى رشيقة هو الأقدر على البقاء والفوز، فمثلا بدأ "باراك أوباما" رحلته لرئاسة أمريكا كأحد المرشحين المغمورين في الانتخابات الداخليَّة للحزب الديمقراطي، لكنها استطاع أن يبرِز مواهبه الخطابيَّة ويداعب أحلام الأمريكيين، مما حوَّلَه لنجم الانتخابات بلا منازع، بل أصبح رمزًا لكل الحالمين بأمريكا ومستقبل أفضل عبر العالم، ليتوَّج في النهاية كأول رئيس أسود للولايات المتحدة. ولم ينجحْ أوباما فقط في استقطاب أصوات شريحة من الأمريكيين العازفين أصلا عن ممارسة السياسة، خاصة من الشباب والملونين والمهاجرين، ودفعهم للتخلي عن سلبيتهم والذهاب لمراكز الاقتراع، بل إنه أيضًا أوجد وسائل إعلام بديلة، عبر مواقع الإنترنت وشبكاته الاجتماعيَّة مثل تويتر وفيسبوك، ليتغلب على سيطرة المرشحين الكبار على وسائل الإعلام المؤثرة، كما جمع أوباما عبر الإنترنت أكبر مبلغ من التبرعات في تاريخ الانتخابات الرئاسيَّة الأمريكيَّة، ليؤكِّد نظرية قديمة جديدة، وهي أن "الشارع ليس ملكًا لأحد". تجارب بائسة أما في مصر فإن الإسلاميين بكافة فصائلهم وتوجهاتهم لا يملكون حتى الآن أي صحيفة أو فضائيَّة تروِّج لمواقفهم السياسيَّة، بل إنه من بين كافة الصحف والفضائيات الحالية لا يمكن الإشارة لأي منها باعتبارها مقرَّبة من الفكرة الإسلاميَّة، وتجارب جماعة الإخوان المسلمين في مجال الإعلام تبدو في غاية البؤس، وصحيفة "آفاق عربيَّة"، المتوقفة عن الصدور، خير دليل على ذلك، ولا داعي لتكرار الحديث عن الضعف المهني لموقع الجماعة الرسمي "إخوان أون لاين" ومن السذاجة أن يتحدث بعض الإسلاميين عن أنهم ليسوا بحاجة إلى دعاية، لأن الشعب المصري بطبيعته متدين؛ فالانتخابات ليست مبارزة بين الأديان أو تصويتًا على الإيمان، وإنما تنافس بين برامج تعالج رؤى سياسيَّة وأمور خدماتيَّة وحياتيَّة، بهدف الفوز بثقة الناخبين. وتسبب فقدان الإسلاميين لمؤسسات إعلاميَّة مؤيِّدة لهم في سقوطهم بسهولة في "فخاخ" الإعلام، خاصة أن الكثيرين منهم لا يجيدون التعامل مع وسائل الإعلام، ولذا ظهرت مصطلحات مثل "غزوة قطع الأذن" و"غزوة الصناديق" و"غزوة الأضرحة"، كما جرى تضخيم زلات لسان للبعض أو نزع بعض الجمل من سياقها، لتتحوَّل إلى معركة حامية الوطيس. وفي المقابل تغاضى الإعلام عن مواقف وتصريحات أشدّ خطورة لقيادات يساريَّة وليبراليَّة، فالصحفي الأشهر محمد حسنين هيكل اقترح تولي المشير طنطاوي للرئاسة، في تكرار لسيناريو ضباط يوليو 1952، ومرَّ الأمر دون تعليق، والأديب البارز جمال الغيطاني دَعَا لبقاء الجيش في الحكم لعدة سنوات، دون أن ينتقدَه أحد، بل إن المرشح الليبرالي للرئاسة أيمن نور دعا لدفع أموال الزكاة لمرشحي الرئاسة، دون أن يتهمَه أحد بخلط الدين في السياسة. ومن المفارقة أن الإعلام يتهم الإسلاميين عامة بتدشين تحالف غير معلن مع المجلس العسكري، في حين أن الإسلاميين هم من يتمسك بإجراء الانتخابات في موعدها، وبالتالي عودة الجيش إلى ثكناته وتسليم السلطة لحكومة ورئيس مدنيَّيْن، في حين أن الليبراليين واليساريين يطالبون بتأجيل الانتخابات وتمديد إدارة العسكر لشئون البلاد. كذلك فإن الإسلاميين يؤيدون قيام البرلمان المنتخب باختيار أعضاء لجنة صياغة الدستور، بينما يعني سيناريو "الدستور أولا" قيام المجلس العسكري باختيار أعضاء اللجنة، وفي الإجمالي فإن القضية ليست قضية ظلم الإعلام للإسلاميين، بقدر ما هي قضية إعلام تتحكم فيه نخبة معزولة عن قطاع كبير من المجتمع، كما هو حال الأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن مصر أخرى غير التي نعيش فيها. المصدر: الاسلام اليوم