لعل العالم بأسره يتطلع إلي رحمة السماء في هذه الأوقات الخالدة التي تذكر الناس بالخير وتحثهم علي المودة والتسامح، وميلاد الأنبياء.. من هذه اللحظات التي أنعم فيها الخالق جل شأنه علي البشرية، ووهبها الأمل لتخرج من الظلمات إلي النور، وتستكمل رسالتها علي الأرض، وليس هناك أقرب إلي الإنسان من خالقه، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، يعلم ما توسوس به النفس في ضمائرنا، فكان الأنبياء رحمة، تنبع من مصدر واحد، تأتي إلي البشر بشرائع مختلفة. ولكن الدين واحد، فجميع الأنبياء أعلنوا إسلامهم لله، بألفاظ واضحة تعبر عن مكنون الوحدانية لإله واحد عظيم، أبدع الكون ومهده وخلق الإنسان فعلمه أسرار الكون ليتفوق بهذا العلم ويتميز به علي سائر المخلوقات مهما كان لها من فضل، حتي الملائكة أذعنت وسكنت وسلمت حينما تم اختبار أبي البشر »آدم« أمامهم فأنبأهم بما استودع من العلم، إشارة إلي هذه الميزة العظيمة ليكون مستخلفاً في الأرض بحق هذا العلم. والبشرية من أدناها إلي أقصاها، سابقها ولاحقها، مدينة للأنبياء بهذه الوحدة الوجدانية والأخلاقية في الرسالات السماوية التي جاءت إلي الأرض لتوقظ الإنسان من سباته وغفوته كلما استغرقته هموم الحياة ومتطلباتها وقسوة الظلمة والطغاة فيها، وسنجد أن مع بعثة كل بني خاصة الرسالات السماوية الثلاث كانت مظاهر الجهل والظلم الاجتماعي وكذلك الاستبداد والطغيان من قبل الحكام وكبار القوم قد أخذت مداها وتعدت كل حدود أو أعراف، وكان علي الأنبياء أن يستنقذوا الضعفاء والفقراء من ضحايا هذه المجتمعات من أيدي الباطشين والجبارين ومن التهم التي كان يلقيها ويروج لها هؤلاء المستبدون. إن أتباع الأنبياء هم أراذلهم وأن هؤلاء الأنبياء ما هم إلا بشر أرادوا أن يتميزوا فادعوا النبوة وتبعهم العبيد والضعفاء، وقد تعرض الأنبياء لعمليات قمع ومحاولات اغتيال للقضاء عليهم بنفس الطريقة، فموسي وعيسي ومحمد عليهم الصلاة والسلام قد تم الكيد لهم بوسائل متعددة، وكان الهدف واحد تصفيتهم جسدياً والتخلص منهم سريعاً لوقف انتشار الدعوة التي يدعون بها إلي نفس القيم والمبادئ.. وحدانية الله، العدل والمساواة بين الناس، إقامة مجتمعات سليمة البنيان تحفظ للإنسان كرامته وتحقق إرادة الله في الأرض بإعمارها وعدم الإفساد فيها وإصلاح ما أفسده المفسدون. إن هذه لصورة واحدة تظل تفتح أمامنا الآفاق، ونحن نتذكر أنبياء الله ورسله، ونعرف لهم الفضل في أنهم قادوا البشرية متتابعين بمنهج قويم من السماء وشرائع ربما اختلفت في بعض التفاصيل، بينما كلها تتجه للوحدة التي تنزع بنا إلي صفحة السماء، كلها تقوي وصلاح وتراجع عن أي سوء قدمته يد الإنسان يوماً ما. وأيضاً هي الابتلاء الذي قد لا يفهمه إلا من خبر حقيقة الدين الذي حمله الأنبياء جميعاً، وكان ذلك واضحاً في ختام الكتب السماوية »القرآن« يحث الإنسان أن يراجع القيم الواردة في جميع الكتب السماوية وعلي ألسنة الرسل حين يصرح بآيات محكمة »آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلُّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير«. فالمصير إذن للواحد الأحد، وعلي كل الذين يؤمنون بهذا المصير أن يؤمنوا بالكتب جميعها، تلك التي بشر بعضها ببعض ومهد لقدومه بإضاءة جانب من جوانب الحقيقة التي كان يغطيها الظلام، ثم اختتم كل هذا الفيض بالرسول الذي بشر به عيسي والأنبياء من قبله: »ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد«. إننا أمام مغزي التنوع الذي يؤدي إلي طريق الوحدانية، ويجعل من التجربة الإنسانية علي الأرض قيمة عالية يباهي بها الله ملائكته، وكل هؤلاء يعبدونه وهم لم يروه، فما بالهم إذا رأوا جنته أو ناره، هل كان علي الأرض من يعصاه، وهو الرحيم الذي جعل أيضاً مع التنوع في الشرائع لتلائم أهلها ذلك الباب الواسع من الغفران والتوبة لكل البشر حتي يعودوا وينيبوا، ويمجدوا هذا الجمال الإلهي الذي يكمن في رحمته وغفرانه، حين يصل إلي مداه: »إن الله يغفر الذنوب جميعاً«. لعل هذا اليوم المجيد في تاريخ البشرية، حين ولد نبي ورسول عظيم، حمل للإنسانية رسالة الله العزيز الحكيم، بما في شريعته من الرحمة والمحبة والصبر علي البلاء والخلاص لله وحده لا شريك له، لعله يحمل للبشرية عبرة من الأحداث الجسام التي حررت الشعوب المغلوبة، وأطلقت أسرها إلي غدها القادم، لتحفظه في ضميرها بعيداً عن التعصب وإثارة الفتنة بين أهل الدين الواحد وإن تعددت شرائعهم. عام الثورات.. يفضي بأسراره لم أكن أتخيل أن يسقط في عام واحد كل هؤلاء الطغاة، وبنفس الطريقة التي ساموا شعوبهم بها سوء العذاب، وأي محاولة تريد أن تشوه البهاء الذي عليه ثورات الربيع العربي، هي من قبيل المكابرة لبقايا الأنظمة التي سقطت والأنظمة التي لم تسقط بعد، وهي مقبلة حتماً علي السقوط، وقد تبين أن أمريكا وسفاراتها في الدول الثائرة لم تستطع أن توقف الغضب الشعبي الكامن وكذلك لم يكن لها أي دور في إشعال هذه الثورات، إنها كذبة كبري تلك التي تريد أن تروج لها زعيمة العالم الحر التي أيدت الطغاة والمستبدين وساندت حكمهم، أمريكا هي التي مولت هؤلاء الحكام طيلة العقود الماضية حتي تضمن ولاء المنطقة، وأمن إسرائيل، ولكن الدرس الذي لم يتعلمه الأمريكان وحلفاؤهم بعد أن الشعوب التي استيقظت لن تهدأ أبداً إلا إذا احترمت أمريكا إرادتهم واعترفت بهزيمتها وعارها أمام هذه الثورات العربية النظيفة.