السبت: التطور الهائل للحياة البشرية يقتحم كل المجتمعات بدون استئذان لكي يزيح من طريقه كل أشكال الحدود السياسية والاقتصادية. قال لي صديق يعمل في مؤسسات دولية: إن العديد من المنظمات الأهلية وبعض المؤسسات الدولية اتجهت إلي العمل علي تحليل الواقع الجديد والعلاقات بين الأفراد والعلاقة بين المجتمعات المختلفة والعلاقة بين البشر وبيئتهم الطبيعية.. والهدف هو استكشاف السبل التي تجعل طريق المجتمعات إلي الحداثة أقل صعوبة.. والعلاقات فيما بينها أكثر انسجاماً. المطلوب هو مواكبة التطورات المستجدة. وهذا هو السبب في ظهور حاجة مُلحة إلي وثيقة تكون بمثابة عقد جديد بين الأفراد والمجتمعات والدول.. وإلي مرتكزات فكرية وقانونية لعمل المؤسسات الدولية المنوط بها قيادة العلاقات الدولية. كنت قد سمعت عن ظهور مؤسسة تحمل اسم »من أجل تقدم الإنسان«، وهي مؤسسة سويسرية فرنسية..، كما سمعت عن تأسيس »التحالف من أجل عالم متعدد.. متضامن.. ومسئول«.. وتابعت، بعد ذلك، أنباء عن عقد عشرات الاجتماعات في مختلف أنحاء العالم.. شارك فيها عدد كبير من ممثلي المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية وممثلي قطاعات مهنية وثقافية ودينية.. وأعقبها تشكيل لجنة تحرير مؤلفة من ممثلين عن القارات الخمس لوضع وثيقة تشكل خلاصة عمل دؤوب استمر علي مدي العقد الأخير من القرن الماضي. وقبل نهاية العام الأول من الألفية الثالثة، عقد لقاء فريد من نوعه باسم »لقاء مواطني الأرض« استمر علي مدي عشرة أيام، وشاركت فيه شخصيات تمثل أنشطة اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية من أكثر من 521 دولة لمناقشة التحديات التي تواجهها المجتمعات في ظل العولمة.. ومشروع وثيقة تحمل عنوان »مسئوليات الإنسان«. وكنت أتساءل، خلال متابعة كل هذه اللقاءات والمناقشات عن جدوي هذا النشاط. هل السبب هو أن البشر لم يمتلكوا في تاريخهم مثل ما يمتلكون اليوم من تأثير عميق متبادل علي حياة بعضهم البعض، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؟ هل السبب هو أن البشر لم يمتلكوا في تاريخهم مثل ما يمتلكون اليوم من معارف وقدرة علي تغيير محيطهم الطبيعي؟ وهل أدرك »مواطنو الأرض« أنه علي الرغم من الإمكانات الهائلة واللامحدودة ومع تطور وسائل الاتصال ورغم القدرات الجديدة التي توصلت إليها البشرية.. فإن هناك أزمات غير مسبوقة في مجالات مختلفة؟ ومن خلال المزيد من المتابعة.. تأكد لي أن هؤلاء »المواطنين« مواطني الأرض توصلوا إلي أن السبب في خلق اضطرابات وأزمات في العالم كله هو تزايد الفوارق الاقتصادية في داخل الدول.. وأيضاً فيما بين هذه الدول، وتمركز القدرات الاقتصادية والسياسية في أيد محدودة للغاية.. وكلها عوامل تضاعف القلق علي مستقبل كوكبنا. في مقابل ذلك، فإن المؤسسات الاجتماعية التي كان من المفترض أن تواجه هذه التحديات تعمل بلا فاعلية تذكر في رأي مواطني الأرض كما أن القدرة الخارقة للأسواق العالمية تؤدي إلي إضعاف دور الحكومات، في الوقت الذي تتقاعس فيه المؤسسات العلمية عن تحليل واستيعاب المشكلات الكونية الشاملة والمترابطة التي تواجه البشرية.. والأخطر من ذلك في تقدير مواطني الأرض أن المؤسسات الاقتصادية العالمية لم تنجح في وقف تزايد سوء توزيع الثروات أو الحد من الظلم الاقتصادي. أما البحث عن الأرباح من جانب المؤسسات الإنتاجية، فإنه يتم علي حساب المصالح الاجتماعية والبيئية. إذن.. ما العمل؟ يري مواطنو الأرض أنه في هذه الظروف يتعين علي كل منا أن ينهض بمسئولياته علي المستويين الشخصي والجماعي.. في سبيل بناء إدارة كونية ديمقراطية تقوم علي أساس مسئوليات إنسانية.. ذلك أن تنامي الترابط بين الأفراد والمجتمعات، وكذلك بين البشر والطبيعة يقوي من تأثير تصرفات البشر والمجموعات البشرية علي البيئتين الاجتماعية والطبيعية سواء في الأجل القريب أو البعيد.. وبينما يتمتع الجميع بحقوقهم الإنسانية بالتساوي، فإن المسئوليات تتوزع بشكل نسبي وفقاً للإمكانات التي يمتلكها كل فرد.. وكلما كان الفرد يتمتع بحرية أكبر وبإمكانه الحصول علي المعلومات والمعرفة.. كلما كانت طاقته علي ممارسة مسئولياته.. أكبر. علي مدي التاريخ، توصلت البشرية عبر تقاليدها وحكمة أجيالها المتعاقبة إلي قيم توجه التصرف البشري في اتجاه مسئول. وقامت هذه القيم علي الفكرة، الحاضرة أبداً، بأن تغيير المجتمع غير ممكن دون التغيير علي صعيد الأفراد. هذه القيم تتضمن احترام كل أشكال الحياة، والحق في الحياة الكريمة، وتفضيل الحوار علي العنف وتقبل الآخرين والتضامن، وحسن الضيافة، والصدق والصراحة، والعدالة والمساواة وتفضيل الصالح العام علي الشخصي.. وكذلك التوافق. هنا يؤكد مواطنو الأرض قاعدة مهمة، هي عدم التضحية بشيء من أجل شيء آخر، مثل عدم التضحية بحقوق الإنسان أو نقاوة البيئة من أجل التنمية الاقتصادية. وفي النهاية، فإن المبادئ المرشدة لممارسة المسئوليات، من وجهة نظر مواطني الأرض، هي: البحث عن السلام يجب أن يترافق مع تحقيق العدالة ولكي نحمي حريتنا الخاصة وكرامتنا، ينبغي أن نناضل من أجل حرية وكرامة الآخرين وإشباع الحاجات البشرية يجب أن يتوازن مع ضرورة الحفاظ علي البيئة الطبيعية.. والبحث عن الازدهار الاقتصادي يجب أن يتوازي مع التقاسم المتساوي للثروات، كما أن آليات السوق يجب أن توضع في خدمة تطور وازدهار كل البشر.. ثم إن النمو المادي والبحث عن الجديد، يجب أن يوضعا في خدمة التنمية البشرية.. وحين نتخذ القرارات التي تتناول الأولويات، علي المدي القصير، لابد أن يؤخذ في الاعتبار تأثيرها علي المدي البعيد.. وأثناء العمل لتوحيد البشر في سبيل مواجهة تحديات المستقبل يجب المحافظة علي إمكانيات التجديد وعلي الثراء الذي يحتويه التنوع الثقافي. حقاً.. العالم كله يجتهد لابتكار السبل لتحرير البشر من العبودية الاقتصادية والتوافق علي شروط تحقيق المزيد من التقدم، وتوفير متطلبات التطور، وتأمين حقوق البشر، والبحث عن عقد جديد بين الأفراد والجماعات.. أما في أجزاء عديدة من العالم العربي.. فإن هناك أولويات وقضايا أخري تشغل الوقت والتفكير.. وهي أبعد ما تكون عن مصالح الناس، وعن ضرورات تحسين ظروف حياتهم. محاور الجدل الأحد: الفتاوي مستمرة بلا توقف في العالم العربي. هناك من أفتي بجواز أكل لحوم العفاريت! .. وفتوي أخري بأن كعب حذاء المرأة.. حرام، ولا يجوز للمرأة أن تستخدم حذاء ذا كعب.. إلا لزوجها باعتبار أن الكعب العالي زينة.. والتزين للزوج فقط. وكنت أعتقد حتي الآن.. أن أغرب الفتاوي هي تلك التي تحرم علي المرأة استخدام »الانترنت« إلا بحضور محرم، لأن »طبيعة« المرأة في نظر صاحب الفتوي هي العهر والمكر»!« غير أنني اكتشفت مؤخراً ما يفوق هذه الفتوي غرابة، وهي علي النحو التالي: رجل يسأل وينتظر الجواب من صاحب الفتوي. والسؤال.. يدور حول قيام هذا الرجل بذبح خروف كأضحية.. قبل أن يكتشف أن الخروف قد التهم قبل ذبحه ورقة من صحيفة أجنبية.. فهل تجوز هذه الأضحية أم لا..؟ أما الجواب.. فهو أن علي صاحب السؤال أن يبحث في معدة الخروف عن بقية ورقة الصحيفة الأجنبية.. فإذا كانت نشرت ما يهاجم الإسلام.. فإن الخروف محرّم أكله، أما إذا لم يكن قد حدث هذا الهجوم.. فإن الخروف حلال.. زلال! في بلادنا.. مناقشات لا تنتهي يفرضها علينا من ينتحلون لأنفسهم صفة التحدث باسم الدين حول قضايا من نوع: إطلاق اللحي مشكلة التماثيل شواطئ المايوهات متي يمكن إلقاء القبض علي السائحات.. وهن متلبسات بارتداء المايوه؟! الفصل بين البنات والبنين في المدارس الأصنام القبيحة التي تركها لنا المصريون القدماء هل يمكن تحريم الموسيقي والغناء؟ الحجاب والنقاب متي يصح مصادرة الكتب؟ متي يمكن قطع الأيدي ورجم الأحياء؟ هل الديمقراطية.. كفر؟ هل يصح أن يدفع غير المسلمين.. الجزية أم انتهي زمانها؟ هل يجوز لمسلم حضور حفل زفاف لأحد المسيحيين بالكنيسة؟ هل يجوز تهنئة المسيحيين بالأعياد؟ وماذا عن الدعاء لابن الجيران المسيحي بالنجاح في دراسته أو عمله؟ هل الأفضل إطلاق اللحي؟ هل يمكن حظر قيادة النساء للسيارات؟.. الخ.. الخ. الطريف في الأمر أن أحد الكُتاب يلوم الصحف ووسائل الإعلام لأنها مستغرقة في مثل هذه الموضوعات! وتجاهل الكاتب علي نحو متعمد أن الذين طرحوا هذه الموضوعات هم أصدقاؤه الذين احترف الدفاع عنهم دائماً وتبرير تصرفاتهم في كل وقت.. ما عدا حالات استثنائية »لزوم التظاهر بالموضوعية«؟ أتذكر الآن ما قاله الشيخ الغزالي: »إن انتشار الكفر في العالم.. يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلي خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم«.