لاشك أن الشعور بالطمأنينة غاية كل إنسان، وهي عادة أصيلة في النفس حيث يحاول كل فرد الابتعاد عن مواطن التهديد والخطر، ويعمل على الاحتماء بالجهات التي تبعد عنه أخطار الطبيعة الجارفة أو تهديد الحيوان المفترس. والشعور بالطمأنينة يرتبط ببدء الخليقة وفجر تاريخ البشرية، ومن هنا وسوس الشيطان لأبينا آدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، إذن هو الاطمئنان على النفس والملك، وعندما يصل الإنسان إلى درجة الاطمئنان، فقد وصل إلى الرفاهية. وتزداد قيمة الشعور بالطمأنينة في المجتمعات المحلية، لما لوحظ في الأوقات الأخيرة من دوام التطور في كافة المجالات، سواء السياسة الاجتماعية أو الاقتصادية، وقد صاحب هذا التطور تقلبًا في الأوضاع المستقرة، وبالتالي اختلف تعريف الأفراد للتهديد أو عدم الشعور بالاستقرار. والشعور بالطمأنينة في المجتمع هو ما يطلق عليه: الأمن الاجتماعي، على وجه أدق. فالأمن الاجتماعي هو: شعور الإنسان في المجتمع بالطمأنينة والحماية بالنسبة للأخطار الاجتماعية التي قد يتعرض لها. والأمن الاجتماعي بهذا المفهوم هو الهدف الذي تصبو كافة الدول إلى تحقيقه، فالهدف واحد، ولكن تتغير الوسائل والأساليب التي تستخدمها كل دولة في سبيل الوصول إليه. ومن أهم الأساليب والسبل التي تلعب دورًا مهمًا في تنفيذ الأمن الاجتماعي البرامج التي اعتمدتها الدول في مجال التأمينات الاجتماعية كبرامج حماية للأفراد والأسرة عند حدوث عوادي الدهر كالعجز أو عدم القدرة على الكسب، وقد تطورت هذه البرامج بصورة ملموسة خلال الفترة الزمنية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى اتصفت بالشمولية والاهتمام بتوفير مظلة اجتماعية لحماية كافة أفراد المجتمع من مخاطر الحياة الاجتماعية والمهنية والصحية. وبرز بالتالي الضمان الاجتماعي، كأداة مهمة وفاعلة لدى شتى المجتمعات، لتلعب بعد ذلك مؤسساته وصناديقه دورًا بارزًا وأساسيًا في توفير الأمن الاجتماعي والحماية الاجتماعية للأفراد والأسر. ومن الجدير بالذكر أن شمولية الضمان الاجتماعي ومظلته الكبيرة التي تمتد إلى كافة أفراد المجتمع- توجد أصولها حقيقة في شريعتنا الإسلامية التي قدمت للبشرية أسمى وأرفع أشكال التكافل والتكامل الاجتماعي، لما فيها من تراحم بين أفراد المجتمع، وإلزام للأغنياء بصرف حقوق الفقراء في أموالهم، وقد أوضحتُ في بحث موسع حول «الضمان الاجتماعي في الإسلام» أن الأساس الذي بُنِيتْ عليه فكرة الضمان الاجتماعي وشموليته من خلال التكافل بين الأجيال هي فكرة مقتبسة من تعاليمنا الإسلامية. وحتمًا فإن برامج الضمان الاجتماعي سوف تتأثر وتؤثر فيما يجري داخل المجتمع من عوامل اقتصادية وسياسية، خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة ومرورًا بالأزمات الاقتصادية التي تعرض لها العالم على فترات متعاقبة، ونحن نعيش الآن إحداها، هذه الأزمات والتطورات الاقتصادية أثرت في مجال الضمان الاجتماعي تأثيرًا مباشرًا، وفي بعضها تأثيرا غير مباشر، وفقًا لاختلاف سياستها ونظرتها إلى نظام الضمان الاجتماعي ومفهومه. وقد تم التركيز في معظم الدول التي اهتمت بالضمان الاجتماعي كأساس لتوفير الأمن الاجتماعي لمواطنيها- على اعتماد نظام الشمولية في البرامج؛ بهدف إشراك كافة الفاعلين، والذي من شأنه أن يكفل في الوقت نفسه بناء شبكة ضمان اجتماعي فاعلة لتحقيق إنجازات تنموية مدعومة بحقوق دستورية تضمن المساواة والعدالة لكافة فئات المجتمع. وبالإمكان تحديد مجموعة من المراحل يتم من خلالها تنفيذ سياسات اجتماعية واضحة وجلية تستهدف الأمن الاجتماعي للمواطنين: المرحلة الأولى: الأخذ بالاعتبار كافة نتائج وتوصيات البحوث والدراسات التي تقوم بها مراكز الدراسات والبحوث بالجامعات والمعاهد المتخصصة، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني لمعالجة القضايا والظواهر الاجتماعية، ومن الأهمية بمكان خلق قاعدة حوارية هادفة هادئة بين كافة أطياف المجتمع من أجل مناقشة هذه النتائج والتوصيات والمشاركة الفاعلة لوضع برامج تنفيذية لها. المرحلة الثانية: تحديد القضايا الأساسية التي تمس الأمن الاجتماعي للمواطنين بشكل مباشر ومنظم حسب الأولويات والضروريات لكل مجتمع. المرحلة الثالثة: تحديد الغايات والأهداف، والتعرُّف على مقاربات بديلة، مما يتطلب توفير مستويات عُليا من الشفافية والجودة في صياغة السياسات الاجتماعية، ويجب أن يظهر ذلك جليًّا عندما تقوم وسائل الإعلام بالنقل المباشر لكل جلسات الاجتماعات ذات العلاقة بالأمن الاجتماعي للمواطنين. المرحلة الرابعة: اختيار البدائل والتدرج في برمجتها للتنفيذ، من أجل بلوغ شمولية نظام الأمن الاجتماعي، بحيث يتحول إلى نظام اجتماعى يقدم الرعاية الشاملة للمواطن، ونقصد بالشمول هنا أن البرامج والاستفادة منها تعتبر حقًا وشرطًا للمواطنة وليست منحة أو إحسانًا. المرحلة الخامسة: وضع القضايا كاملة بكافة بياناتها على الأجندة العامة في خطة الدولة التنموية؛ من أجل البدء بالتنفيذ، مع مراعاة توفير الموازنات والكوادر الفنية اللازمة للعملية التنفيذية. وعبر تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال مثل كندا والسويد، فقد أدى ذلك إلى إنشاء نظام لدولة الرعاية الناضجة التي تزود مواطنيها بشبكة الأمان الاجتماعي التي ظلت الحكومات- وما زالت- تسعى إلى إقامتها، ثم اصطدمت بمشاكل الأزمات الاقتصادية عبر التاريخ الاقتصادي للسوق العالمي، ولكنها مازالت تحاول تأمين العدل والكفاية المالية وضروريات الحياة الاجتماعية لأفراد المجتمع. وتظل المرحلة الأخيرة مهمة ومستمرة، وهى التقييم المستمر لبرامج السياسات الاجتماعية المتعلقة بالأمن الاجتماعي ومحاسبة ومتابعة ومراقبة ومسائلة القائمين على تنفيذيها بصورة مستمرة ودورية. www.dribrahimguider.com