عقدت الإيشارب »المزركش« حول عنقها عقدتين.. وتذكرت أنها لم ترتد سوي اللون الأسود والبني والرمادي منذ سنوات. ارتدت »عباية« ذات ألوان فاقعة وتعمدت ألا تتواري في مشيتها.. ربما عرفها أحد وسألها عن وجهتها حتي تحكي له.. أسرعت الخُطي حتي تكون أول المنتظرين. تجاوزت عيناها كل الجالسين والواقفين في المكان الذي إزدحم بعدد من الأباء والأمهات والأخوة.. كل منهم يمسك بيد الآخر أو بأذنه.. أما هي فليس لها أحد سواه بعد الله. بابتسامة غير كاملة، راح قلبها يحدثها عن ملامحه.. كيف أصبحت.. وهل شاربه أصبح ثقيلا؟.. هل أصبح أكثر نحولة عما كان؟، فقد تركت صبيا صغيرا لم يتجاوز الأربعة عشر عاما.. كان تلميذا، يغدو ويروح للمدرسة.. يتأخر كثيرا.. تنتظره متلهفة، وتصبر نفسها بأن الأولاد كلهم في سنه يفعلون ذلك، أو تقول-لتطمئن- ربما يلعب مع رفاقه. أفاقت علي صوت يشبه ذلك الصوت الذي أخبرها يوما أنه شاهد »فهد« يضرب جنود الاحتلال بالحجارة مع بعض رفاقه، وأنه أنقذه من أيديهم أكثر من مرة.. تحولت ابتسامتها غير الكاملة الي دموع امتلأت بها عيناها ووجنتها الذابلة، عندما تذكرت يوم فراقه.. كان ذلك منذ تسع سنوات عندما انتظرته بعد موعد المدرسة.. جاء الغروب ولم يأت »فهد«.. وحل الظلام بينما لم تطأ قدمه الشارع أو المنزل، هرعت الي الطرقات والشوارع المظلمة.. طرقت أبواب أصدقائه، فاذا بأحدهم يقول وهو يرتعد وبصوت متهدج.. يكاد قلبه يخرج من صدره: رأيت »فهد« مع عدد كبير من الأصدقاء يأسرهم جنود الاحتلال بسبب حجارتهم التي أفزعتهم وأصابت الكثير منهم. بكفين مرتعشتين مسحت دموعها حتي لا يظهر أي أثر لحزن قديم.. راحت تنتظر ربما الآتي قريب. مكبر الصوت ينبئ بوصول الاسري.. لم تعد قدماها تحملانها، إلا أنها تماسكت.. ثم بدأت الأحضان والقبلات.. صرخات الفرح.. زغاريد تملأها دموع.. تقبيل الأيدي والوجوه والأكتاف.. أمهات وآباء وأخوة وأخوات.. الكل في حالة عناق محموم. إنتهي المشهد من أمامها تماما.. لم يعد في المكان غيرها والكراسي وبعض مخلفات الأعداد الهائلة. إنتظرت حتي قارب الغروب.. عادت لإبتسامتها غير الكاملة تقول لنفسها ربما حملته حافلة أخري، الي ان فاجأها القادم بأن كل شيء انتهي وعليها أن تغادر. سمعته ولم تنطق.. تحولت إبتسامتها المتحجرة الي وجوم، لكنها عادت تبتسم وتنظر خلفها قائلة.. ربما كان هناك شاليط آخر يستبدلونه بألف وسبعة وعشرين أسيرا فلسطينيا.. ويكون إبني بينهم. [email protected]