قاعدة وضعها المفكر الفرنسي »مونتسكيو« ينطلق منها المشرّعون.. مفادها ان كل سلطة مطلقة تفقد شرعيتها السبت: الثقافة المدنية تستند الي قيم حضارية مشتركة هي الكرامة الانسانية واحترام حقوق الانسان والعدالة.. والتسامح. الإقرار بفكرة الخطأ والصواب وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة ومعرفة الاخر والانفتاح عليه والاتصال به وحرية التعامل والتعايش معه بمعني عدم العصمة عن وقوع اي فرد في الخطأ والاعتراف بالاختلاف بين البشر في طباعهم واديانهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم وقبول العيش في سلام معهم.. ذلك هو جوهر التسامح. من هنا جاء ترحيبي بالمشاركة في ندوة بقاعة »لويس عوض« بصحيفة »الأهرام« حول كتاب الفيلسوف الانجليزي جون لوك: »رسالة في التسامح«. قام بادارة الندوة الكاتب والباحث الصديق نبيل عبد الفتاح وشارك فيها استاذ الفلسفة د. انور مغيث والروائي ابراهيم عبد المجيد. جاء اختيار موضوع هذه الندوة في الوقت المناسب حيث يحاول البعض في بلادنا فرض التعصب والظلامية والغاء ومصادرة تاريخ الفكر البشري ونتاج ما ابدعته عقول المفكرين من رواد التنوير والنهضة. وقد يندهش القارئ اذا عرف ان »رسالة في التسامح« نشرت لأول مرة في مدينة »خودا« بهولندة في سنة 9861 أي منذ 223 سنة ومع ذلك فانها تحتوي علي افكار جديرة بالتأمل. وقد بدأ جون لوك يقتنع بأن أمور الدين تخص الفرد والله فقط ويقول انها أمور »كلها بين الله وبيني أنا«. ويقول: »ليس من المعقول ان يعهد الناس الي الحاكم المدني بسلطة ان يختار لهم الطريق الي الخلاص. انها مسألة خطيرة لا يمكن التسليم بها فلا يحق للحاكم ان يحدد لي الطريق او ان يحث همتي فيما يتعلق بخلاص الروح لأنه ليس أعلم مني بالطريق المؤدية الي النجاة.. في الدين. كل اختصاص الحاكم، فيما يري لوك، يقتصر فقط علي الخيرات والمصالح المدنية وتنميتها أي الحياة والحرية والصحة والملكية للأرض والنقود والمنقولات بواسطة قوانين مفروضة بالتساوي علي الجميع أما ان تمتد سلطة الحاكم الي خلاص النفوس فان ذلك لا يمكن ان يحدث بأي حال من الأحوال لأنه لا شأن للحاكم المدني بالعناية بالأرواح او رعاية النفوس.. وليس لأي انسان السلطة في ان يفرض علي انسان آخر ما يجب عليه ان يؤمن به أو يفعله لخلاص روحه لأن هذه المسألة شأن خاص كما ان الله لم يمنح هذه السلطة لأي انسان ولم يمنحها لأحد علي آخر ولم يمنحها لأية جماعة بحيث ترغم الآخرين علي اعتناق دينها كذلك لا يمكن ان يكون الناس قد اعطوا الحاكم هذه السلطة. والحاكم ليس له علم خاص.. بالطريق او السبيل الي الجنة، فكل واحد منهم يسمح للآخرين في هدوء بان يختار طريقه الي السماء. وليس في إمكان انسان حتي لو أراد ان يؤمن بما يمليه عليه غيره، فالدين يقوم علي الايمان الباطن في النفس. ومن طبيعة العقل الانساني انه لا يمكن إكراهه بواسطة أية قوة خارجية. والناس الذين يتبعون الحاكم بطريقة عمياء لن يفلتوا من العقاب الالهي اذا أضلهم سواء السبيل. النتيجة التي توصل اليها جون لوك هي انه ينبغي تقرير الحرية الفردية في الشئون الدينية كما ان حرية الضمير حق طبيعي لكل انسان. ويري هذا الفيلسوف ان التجاء رجال الدين الي السلطة المدنية في أمور الدين يكشف عن أطماعهم- هم- في السيطرة الدنيوية لأنهم يشجعون نوازع الطغيان عند الحاكم حيث ان المشاهد علي مدي التاريخ ان تحالف الحاكم مع رجال الدين كان دائما لصالح طغيان الحاكم. الهدف الذي يسعي وراءه جون لوك هو تحرير الناس من كل سيطرة لأحد علي غيره في أمور الدين. ظهرت هذه الافكار عند فيلسوفنا في زمن ترددت خلاله دعوات هدامة وسط أجواء الاضطرابات والمذابح نتيجة للزعم بان كل المعتقدين بحقيقة وسلامة دينهم يحق لهم إبادة سائر الأديان. وجاءت دعوة جون لوك لكي تلح علي ترك كل انسان لضميره حتي لو ضل وأخطأ ذلك ان الضمير الخاطئ الذي يعتقد انه علي صواب له نفس الحقوق التي للضمير المستقيم العقيدة. وكل فعل يرتكب ضد الضمير هو جريمة. ورغم ان هناك من يري ان مفهوم التسامح يتعرض للتآكل لأن التسامح يعني مطالبة الأقوي بان يكون متسامحاً مع الأضعف فان التسامح ينطوي علي احترام كرامة الآخر، ولا يصح ان يتصور الآخر- عندما يكون هو موضوع أو محور التسامح- انه غير متساو مع غيره. التسامح هو اساس المدنية الحديثة وهو ضروري لتحرير العقل الانساني ولتحقيق المساواة الكاملة بين أبناء الأمة الواحدة بصرف النظر عن معتقداتهم. كانت ندوة قاعة »لويس عوض« بمثابة شعاع ضوء ونافذة لإستعادة أفكار نيرة لأصحاب رؤية مستقبلية سبقوا عصرهم باكثر من ثلاثة قرون وطرحوا اجتهاداتهم الفكرية التي تدور حول روح الانسان التي لا يمكن ان تكون في متناول سيف الحاكم ورفضوا استخدام الإكراه في شئون الايمان لأن القوة لا يمكن ان تدعي لنفسها الحق في حسم أمور تتصل بعقل الانسان. الدكتور الترابي الخميس: انها أول مرة التقي به رغم انه أثار زوابع وأعاصير في العالمين العربي والاسلامي لم تهدأ حتي الان. انه الدكتور حسن الترابي المفكر الكبير وصاحب الرؤية المتكاملة التي توصف بأنها منفتحة علي العالم والقادرة علي الاستجابة لتحديات العصر. الدكتور أو الشيخ الترابي متحدث بارع وفصيح اللسان وواسع الثقافة وقوي الحجة وصاحب شخصية آسرة. انه يري ضرورة ان تتجدد صلة المسلمين بأعظم منحه إلهية: العقل ويؤكد ان المجدد هو مصدر التهديد لأعداء الأمة لأن التقليديين لا يزعجون الغرب ولا يشكلون خطراً عليه. ويري الترابي ان الافكار لدي المسلمين أصبحت ميتة وانهم اصبحوا كسالي وتركوا العمل والسعي من اجل التغيير، فقد تم تجميد العقل ثم ان نصف الأمة مشلول فالنساء أصبحن مجرد أداة للانتاج الجنسي والطبخ فقط. وتعرض الترابي للاتهام بالزندقة والردة والخروج عن الملة بعد ان قال ان شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل وتوازيها واحيانا تكون أفضل منه وأقوي واكثر علماً.. وبعد ان قال ان الاسلام لا يمنع زواج المسلمة من مسيحي وان رئاسة الجمهورية يمكن ان تكون من نصيب امرأة أو مسيحي وأنكر ما تزخر به بعض كتب الفقه حول عذاب القبر. وعندما قال البعض انه يحكّم عقله في مقام النصوص وينتهج نهج المعتزلة ويقدم العقل علي النصوص، أخذ يدافع عن الاجتهاد وعن العقل ويعارض محاكمة الفكر وإدانة الضمائر. ولكن الترابي سيظل شخصية مثيرة للجدل. انه يطالب الان باسقاط نظام الحكم في السودان وينصح الرئيس السوداني عمر البشير بان يذهب للمحكمة الجنائية الدولية ليدافع عن نفسه فهذه المحكمة ليست صنيعة الامريكيين والصهاينة كما يقال. وكان الترابي في الحكم حتي سنة 9991 وخلال مشاركته في السلطة شهد السودان مآسي التعذيب والقمع و»بيوت الاشباح« (السجون) كان الترابي رئيسا للبرلمان السوداني كما انه الذي تولي صياغة دستور 8991 والنموذج القائم الان في الخرطوم للحكم من صنع الترابي وهو نموذج لم يحصد منه السودان سوي الحروب وتكريس الاستبداد وإقصاء الاخر وجرائم ضد الانسانية وأخيرا تقسيم البلاد الي دولتين. وكان لابد ان يسمع الترابي كلمات صريحة حول قيامه بالتخطيط للانقلاب العسكري الذي حمل البشير الي السلطة وقد كنت في الخرطوم قبل شهرين وسمعت سودانيين يقولون ان البشير ليس سوي تلميذ للترابي. لقد حان الوقت ايها الشيخ الترابي لكي تتحدث عن اخطائك وعن الدروس المستخلصة من التجربة السودانية وعن تجارب الذين يصفون انفسهم بانهم »اسلاميون« في العالم العربي وعن مصير الديمقراطية في ظل انظمتهم وعن دعمهم للسلطوية القمعية ونفي الاخر: السياسي والديني. انت يا دكتور الترابي الذي تحالفت مع الفريق البشير للاطاحة بحكومة انبثقت عن انتخابات ديمقراطية يقودها صهرك زعيم حزب الامة الصادق المهدي ثم جاء عليك الدور لكي يطيح بك البشير ويزج بك في السجن اكثر من مرة. خلال المناقشة مع الدكتور الترابي سمعت لأول مرة كلمة: »كان ذلك خطأ« في وصف احد مواقف محدثنا. وشعرت بارتياح. ولا أدري ما اذا كان تقديري للترابي المفكر المجتهد اكثر من تقديري له كسياسي ولكني اعترف بانه شخصية تاريخية لها وزنها في الساحة العربية. ضحك طويلا عندما قلت له وانا أودعه ان ما يعجبني فيه اكثر من أي شئ آخر انه صاحب وجه ضاحك فهو يبتسم ويضحك دائما وهو يتكلم، مما يضفي علي المناقشة معه جواً من الألفة والمودة والبهجة، وقلت له إن لدينا في مصر من يريدون ان يحتكروا الحديث باسم الدين ولكنهم لن يحققوا نجاحاً لأنهم دائما متجهمون يرعدون ويزبدون ويصرخون في غضب وعصبية خاصة اذا سمعوا كلمة »الدستور«!!