مصطلح التسامح لا يصف كميات دقيقة يمكن تدوينها وضبطها في صيغ رياضية، وإنما هو في جزء كبير منه تعبير عما يسمعه الناس فيه، أو يريدون سماعه فيه. فلهذا المصطلح تاريخ طويل، وهو يدل منذ قرون عديدة، علي أنه فضيلة يصعب تطبيقها تماماً في كل عصر، وفي كل الأمور. والتسامح بالمعني الحديث يقتضي، لا أن يتخلي المرء عن قناعاته، أو يكف عن إظهارها والدفاع عنها والدعوة لها، وإنما يعني الامتناع عن استعمال أي وسيلة من وسائل العنف، وبكلمة واحدة احترام الآراء وليس فرضها . ولا يتأتي ذلك إلا بالبحث عن أرضية مشتركة للأنا والآخر، من أجل الوصول إلي جوهر الحقيقة التي تقف في ثنايا الكليات، وهذا يفتح الباب أمام إمكانية أن أكون "أنا" علي خطأ، و "الآخر" علي صواب، وربما من خلال الحوار نصل معاً إلي الحقيقة أو علي الأقل نقترب منها . فالإنسان مرهون بالمغايرة والاختلاف وعدم التطابق، ولا معني للتسامح أصلاً إذا كانت الأمور كلها تستدعي التماثل سواء في الفكر أو العقيدة، وربما كان التسامح هو الوئام في سياق الاختلاف والتباين . من هنا يختلف التسامح تمام الاختلاف عن اللامبالاة أو عدم الاكتراث أو التنازل لشخص كتعبير عن الأدب، باعتبار اشتقاق الكلمة من لفظة (س.م.ح). فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعي أنني أبدي تسامحاً إزاء أندادي في العقيدة أو المختلفين معي . أضف إلي ذلك أن التسامح لا يعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تنحي المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها، كما لا يعني ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلي عقيدة أخري، أو المواطنة الجبانة، ذلك لأن التسامح هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير والتعبير، أنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس . بيد أن خشيتنا المبالغ فيها حسب كارل بوير نحن معشر المؤمنين بالتسامح من أن نصبح نحن أنفسنا غير متسامحين، هي التي أدت بنا إلي الموقف الخطأ، والخطير الذي يوجب علينا أن نتسامح مع كل شيء . فالسؤال عن حدود التسامح هو أكثر الأسئلة مشروعية وأهمية في مصر المحروسة الآن : أينبغي أن نتسامح مع كل شيء حتي "العنف" ؟ أنتسامح مع ما يهدد التسامح نفسه ؟ إن التسامح اللامحدود يدمر التسامح، وقد ناقش الفيلسوف الأمريكي "جون رولز" في كتابه "نظرية العدالة" مسألة القدرة علي التسامح مع غير المتسامحين نقاشاً مفصلاً . وقسم السؤال: هل ينبغي التسامح مع غير المتسامحين إلي قسمين: الأول هو هل ينبغي للجماعات غير المتسامحة أن تتذمر عندما لا يجري التسامح معها؟ والثاني هو: هل للجماعات أو الحكومات المتسامحة الحق في ألا تتسامح مع غير المتسامحين؟ . للإجابة عن السؤال الأول يمكن الرجوع حسب رولز إلي القاعدة الذهبية : "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك" .. وبالتالي ليس للأفراد أو الجماعات غير المتسامحة الحق أن تتذمر عندما لا يجري التسامح معها . أما بالنسبة للسؤال الثاني فرأي رولز أنه حين لا يتهدد سريان الدستور العادل، فمن الأفضل التسامح مع غير المتسامحين، أي عندما يكون الدستور آمناً فلا داعي لقمع حرية عدم التسامح . غير أن التسامح في رأينا هو أكثر من كل ذلك، أكثر من قبول الآخر أو الاعتراف بحقه في التباين والاختلاف، إنه قبول "حق الخطأ" كحق من حقوق الإنسان والمواطن كما جاء في إعلان عام 1791 الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية، والأمم المتحدة عام 1948 .