مقومات نجاح الحكومة لا تختلف كثيرا عن مقومات نجاح فريق كرة القدم. فالاثنان يقوم نشاطهما علي التنسيق والعمل الجماعي والسعي لتحقيق هدف واحد. وكما ان فوز فريق الكرة يعتمد علي وجود بديل كفء لكل لاعب تحسبا لحالات الإصابة والإنذار. ايضا في حالة الحكومات نحتاج إلي دكة قوية يجلس عليها شخصيات تتميز بالكفاءة والخبرة والرغبة في العمل العام. وهو ما تعرفه الدول المتقدمة بحكومة الظل. وحينما تتوالي الاعتذارات عن شغل المقاعد الوزارية في مصر، وتؤدي إلي تأجيل التعديل الوزاري لأكثر من ثلاثة اسابيع، فهي جرس انذار يدق ويدعو للدرس والتمحيص ومراجعة المنابع التي نستقي منها الوزراء ورجال الدولة في دولة مترامية الأطرف ويعيش داخل حدودها أكثر من تسعين مليون نسمة وتمتلك اكبر عدد من خريجي الجامعات والحاصلين علي مؤهلات عليا سواء من الجامعات المصرية أو من الخارج. بالإضافة إلي اكثر من ثلاثين حزبا منحها الدستور إمكانية تشكيل الحكومات أو المشاركة فيها طبقا لتمثيلها بالبرلمان. ففي عهد محمد علي كان العائدون من البعثات التعليمية بفرنسا هم المنبع الذي استقي منه رجال دولته، ونجح من خلالهم في اقامة نهضته الحديثة مع الاستعانة بعناصر اجنبية تم تمصيرها بالإقامة الطويلة بمصر مثل الكولونيل سيف الفرنسي مؤسس الجيش المصري أو نوبار باشا الأرميني الذي تولي الحكومة سنوات طويلة. استمر خلفاء محمد علي باتباع نفس الطريقة حتي تجددت النخبة في بداية القرن العشرين بخريجي الجامعات المصرية من كليات الحقوق بالتحديد، وتوافرت اجواء ليبرالية سمحت بدور كبير للأحزاب في تشكيل الحكومات، هذه النخبة هي التي أتي منها سعد زغلول ومصطفي النحاس وعلي ماهر ومحمد محمود وسراج الدين، وهي التي قادت الدولة المصرية حتي عام 1952. وبعد ان قاد الجيش ثورة يوليو ضد العهد الملكي جاء بنخبة جديدة لاعلاقة لها بالسياسة لكنها تمتلك مهارة فنية عالية في تخصصاتها، فكان هناك رجال دولة أتوا من الجامعة مثل الدكتور القيسوني ومصطفي خليل والجريتلي وغيرهم، تولوا المسئولية بجوار النخبة الجديدة ذات الخلفية العسكرية التي برز دورها لفرض اهداف الثورة الجديدة، خصوصا ارساء مبادئ العدل الاجتماعي والقوانين الاشتراكية التي كانت بطبيعتها موجهة للنخبة القديمة من اصحاب رؤوس الأموال والملكيات الزراعية الواسعة. ثم اصبح الاتحاد الاشتراكي كوعاء سياسي معبرا عن قوي الشعب العاملة هو منبع لاختيار النخبة، حتي بعد ان تغير اسمه للحزب الوطني فيما بعد. واستمر هذا النهج اثناء فترة الرئيس السادات كاملة، واتبعه الرئيس مبارك حتي عام 2005، حينما برز دور جمال مبارك من خلال لجنة السياسات والتي جددت النخبة المصرية من خلال اشراك رجال الأعمال في تولي الحقائب الوزارية. وبالرغم من ان ثورة يناير قد قامت ومن ضمن اسبابها وجود دور كبير لرجال الأعمال، فلا يمكن اغفال نجاحات واسعة تم تحقيقها. لكن النجاح الاقتصادي لم يوازه تطور سياسي يكمله ويحميه. فكانت الثورة بكل تداعياتها المفرحة والمؤلمة ايضا. إذن تراكم لدينا ستة منابع تمثل النخبة المصرية ويجري اختيار الوزراء منها: الجامعة والجيش والشرطة والقضاء والأحزاب والمجتمع المدني. وباستبعاد حالات الجيش والشرطة التي تأتي لشغل مواقع خاصة، او من وازع وطني نتيجة اعتذارات متوالية، نجد اننا لم نواجه مثل هذا التصحر في كفاءات العمل التنفيذي، ولا العزوف عن العمل العام الذي أدي لتولي شخصيات نظيفة وعاشقة لمصر لكنها لاتمتلك المؤهلات الكافية لقيادة العمل العام. في كل العهود السابقة كانت هناك منافسة حميمة ومحمودة للمشاركة في الوزارة وعرفنا خلالها شخصية عبد مشتاق الذي كانت وسائل الإعلام تتندر علي شوقه للتوزير. لكننا نعرف الآن عبده معتذر الذي يهرب من الوزارة ويفضل الابتعاد عن الضوضاء. هذه الظاهرة تدعو لتنقية المناخ العام المحيط بالعمل التنفيذي في مصر بعد ان اصبح طاردا بشكل مثير، فالموارد ضعيفة والاحتياجات واسعة خصوصا في الوزارات الخدمية، كما ان المنصات الإعلامية لاترحم شاغل المنصب العام من قذائف تنهال عليه سواء عن حق او باطل. انني ادعو مجلس النواب للموافقة الفورية علي زيادة مخصصات السادة الوزراء، لضمان اجتذاب عناصر تمتلك مؤهلات وكفاءة نادرة، لأن هذه العناصر يمكن بجرة قلم منها ان تتخذ قرارات قد تكبد الدولة ملايين الجنيهات، وقد تنجح في تحقيق انجازات يمكن تقييمها بمليارات الجنيهات. مع اسباغ حماية علي المنصب العام من هواة تقديم البلاغات لإحداث شوشرة تصيب سمعة الناس وتنتهي إلي لاشئ بعد ان تحقق اهدافها. كما يجب ان نسعي لتجديد وتقوية منابع النخبة المصرية التقليدية مثل الأحزاب والمجتمع المدني لتصبح مصادر أصيلة لتفريخ الوزراء ورجال الدولة مثلما كان الحال خلال الفترة الليبرالية من تاريخ مصر. هذه كلها شروط للسير في الطريق الطويل امامنا لتحقيق دولة ديمقراطية مدنية حديثة.