كلمة النخبة هي إحدي أكثر الكلمات شيوعا في الخطاب السياسي والإعلامي في مصر الآن. يقرأها الناس في الصحف, ويسمعونها في المحطات التليفزيونية التي يقضي كثير من المصريين معظم أوقاتهم أمامها. ولكن اكثر من يستخدم هذه الكلمة هم من يعتبرون, أو يرون انفسهم, من النخبة, فليس معتادا ان تتردد هذه الكلمة بين عامة الناس أو عموم المواطنين. ومن الطبيعي ان يكون في كل مجتمع من يتجاوز اهتمامهم مساحة حياتهم الخاصة العائلية والعملية وتشغلهم شئون مجتمعهم سواء المحلي أو العام فيشاركون فيها بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة. ومن المعتاد, كذلك, ان يكون في كل مجتمع من يبرزون في مجالات مختلفة يشتهرون فيها او يتفوقون, سواء في السياسة حكما وسلطة ومعارضة ومشاركة, أو في الثقافة بآدابها وفنونها, أو في العلم بتطبيقاته المتنوعة, أو في الاقتصاد والمال والاستثمار والتجارة, أو في الرياضة خصوصا الالعاب التي تحظي بشعبية كبيرة. وهؤلاء هم قوام النخبة في أبسط معني لها. فالفرق بين المواطن العادي وذلك الذي يعتبر من النخبة هو ان الاول انسان خاص لا يتجاوز اهتمامه دائرته الضيقة بخلاف الأخير الذي يعتبر إنسانا عاما ويسمي في بعض الأحيان شخصية عامة مع تباين درجة عموميته ونوعها ومجالها. ولم يكن هذا هو المعني الذي اقترن بكلمة النخبة منذ ان ظهرت في أوروبا في القرن السابع فقد كان استخدامها الاول لوصف السلع المميزة او المفضلة, قبل أن يمتد استعمالها ليشمل الفئات الاجتماعية الاكثر تفوقا مثل النبلاء والوحدات العسكرية الخاصة. وكان ذلك قبل بدء التنظير لمفهوم النخبة للتمييز بين الحكام والشعب, او بين السلطة والجمهور, حيث استخدمه عالما الاجتماع الايطاليان فيلفريدو باريتو وجيتانو موسكا للتعبير عن معني محدد هو ان اختلاف القدرات الفردية يفرض انقسام اي مجتمع الي أقلية حاكمة صغيرة تستحوذ علي السلطة والقوة المادية وصنع السياسة, وأغلبية محكومة. ورفض باريتو وموسكا الافتراض القائل ان النظام الديمقراطي يمكن ان يضع حدا لهذا الانقسام الذي عرفته البشرية منذ ان وجدت مجتمعات مستقرة لكل منها سلطة تدير أموره. ولكن إسهام باريتو وموسكا كان في مجال تحليل هذا الانقسام وإضفاء طابع الحتمية عليه. ولا تقل حتمية هيمنة النخبة لديهما عن حتمية الانقسام الطبقي وصراع الطبقات عند كارل ماركس ولكن الفرق هو أن حتمية ماركس تنتهي, في نظريته, بتأسيس المجتمع الشيوعي, بخلاف حتمية النخبة المهيمنة. ولم تكن الفلسفات التي مجدت القوة, مثل فلسفة البطل عند توماس كارليل ومبدأ الرجل المتفوق سوبرمان عند نيتشة, الا تنويعات علي فكرة النخبة والجمهور. ودلالة ذلك ان وجود نخبة في مصر, كما في غيرها من بلاد العالم, هو أمرطبيعي, ومن الطبيعي ايضا أن يتفاوت مستوي النخبة وقدراتها في داخل المجتمع, وأن يختلف من مجتمع الي آخر, ولكن ما لايمكن اعتباره أمر طبيعيا ان يهبط مستوي النخبة وتتراجع قدرة معظم أفرادها فلا يبقي ما يميزها عن الجمهور. وهذا هو ما نراه في مصر الآن. فهناك ضعف متزايد في المتوسط العام لاداء النخبة ومعارفها وقدرتها علي إنتاج الافكار وتقديم النماذج المضيئة. وتقدم البرامج الحوارية( التوك شو) في القنوات التليفزيونية, والتي أصبحت فاكهة اعلام هذا الزمان, دليلا تجريبيا يوضح محنة النخبة المصرية. فضيوف هذا البرامج هم جزء أساسي في النخبة. فإذا تأملنا ما يقوله كثير منهم, حتي لا نسرف في التعميم, وتخيلنا ان مواطنين عاديين كانوا هم الضيوف, لما وجدنا فرقا ملموسا يجعلهم قادة رأي عام ويقنع الجمهور بانهم مؤهلون لمثل هذا الدور. وقد أصبح هذا واضحا الآن اكثر من أي وقت مضي ليس فقط بسبب كثافة التواصل عبر الاعلام التليفزيوني والالكتروني, ولكن نتيجة تدهور مستوي النخبة في المقام الاول. فليس في معرفة كثير ممن يعتبرون نخبة, ولا في أدائهم وطريقة تفكيرهم, ما يميزهم عن عامة الناس. ويرجع هذا التراجع الي عدد من العوامل في مقدمتها ان الكثير من اهل النخبة بات كل منهم مشغولا بالنفع الذي يعود عليه من عمله العام سواء كان معنويا أو ماديا. ويحدث ذلك في الوقت الذي يتوسع اهتمام أعداد متزايدة من الجمهور بالمجال العام. وهكذا تضيق المسافة بين النخبة والجمهور بسبب تراجع مستوي النخبة وقدراتها, وليس نتيجة ازدياد التواصل والتفاعل. وهذا السبب هو نفسه المصدر الاساسي للعلة التي ضربت النخبة فتفشي فيها مرض تغليب المنافع الخاصة علي المصلحة العامة. وما إن يحدث ذلك في أوساط النخبة في أي مجتمع حتي يبدو كثير منها اقصر قامة مما هو مفترض. واذا اخذنا الاحزاب السياسية مثالا, نجد ان نخبتها عجزت عن احتواء الآثار السلبية للحصار الذي فرض عليها لفترة طويلة, فانغمس كثير من قادتها وكوادرها في صراعات صغيرة لا يري فيها كل منهم إلا نفسه. ولذلك تعجز هذه الاحزاب الآن عن انتاج من يمكن اعتبارهم قادة الرأي العام الذي يمثلون ركنا من اهم أركان النخبة السياسية. ومازال الحزب الوطني بدوره غير قادر علي إنتاج هذه النخبة بسبب التباس موقعه في نظام الحكم فهو لم يستطع أن يتجاوز موقع حزب السلطة ولم يتمكن من ان يصبح الحزب الذي يقود الحكومة بالرغم من الجهود التي بذلت في هذا الاتجاه منذ عام2002. ولا ننسي ان تجفيف منابع السياسة في الجامعات أغلق أحد اهم معامل تكوين النخبة, في الوقت الذي تدنت معرفة القسم الاعظم من طلابها وقل شغفهم بالشأن العام في أبسط صوره. ولذلك كله ينبغي أن يكون ضعف مستوي وقدرات وامكانات النخبة المصرية ضمن همومنا الراهنة. فمن الصعب أن يحقق أي اصلاح المرجو عنه في غياب نخبة قادرة علي حمل مشروع للمستقبل.