مع قيام ثورة 1952 انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. فمظاهر الديمقراطية «الجمهورية» و«الليبرالية» اختفت أو تراجعت بشكل كبير ليحل محلها نظام للحكم الفردى والشمولى. وعلى العكس فإن مظاهر الديمقراطية «المثالية» أو الديمقراطية «الاقتصادية والاجتماعية» أخذت مكان الصدارة. فكان أول أعمال الثورة هو «الإصلاح الزراعى» ومحاولة القضاء على الملكيات الزراعية وتحديد الإيجارات الزراعية ووضع القيود على إيجارات المساكن، والاهتمام بمزيد من نشر التعليم وإقرار مجانية التعليم الجامعى وضمان الوظائف للمتخرجين. وهكذا تراجعت المفاهيم «الجمهورية» و«الليبرالية» للديمقراطية، وبرزت بعض مظاهر الديمقراطية «الاقتصادية والاجتماعية». ومع ذلك فقد انتكست هذه المظاهر الأخيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. بدأت الثورة مشروعها السياسى بإلغاء الأحزاب السياسية مع القيام بحملة تشويه منظمة وفاعلة على الحياة السياسية السابقة، وأطلق عليها تعبير ذو دلالة «العهد البائد» و«الأحزاب الفاسدة». واعتقلت الثورة فى بدايتها السياسيين القدامى وقدمت بعضهم لمحاكمات استثنائية ثم فرضت العزل السياسى عليهم ولم تستثن سوى جماعة الإخوان المسلمين، ثم ما لبث أن وقع الخلاف معهم مما أدى إلى استخدام وسائل قمعية شديدة ضدهم بالاعتقال والسجن بل الإعدام أحياناً. وهكذا اختفت الأحزاب السياسية من الساحة ثم لم تلبث أن أممت الدولة الصحافة، ومع سيطرتها على الراديو ثم على التليفزيون، بعد إدخاله فى بداية الستينيات، أصبح الإعلام المرئى والمقروء والمسموع كله موجهاً وفى يد الدولة. وبدأ النظام فى تقليد جديد لتوزير الفنيين من التكنوقراط، خاصة من أساتذة الجامعات، بحيث أصبح منصب الوزير إلى حد بعيد منصباً فنياً بعيداً عن السياسة بالمعنى المعروف، ولم يكن لهؤلاء المسؤولين أى قواعد أو جذور سياسية أو جماهيرية. وفى بداية الثورة بدأت التفكير فى إنشاء مؤسسات جماهيرية وشعبية لإعطاء الحكم غطاء شرعياً من ناحية واستخدام هذه المؤسسات للتوعية والتوجيه والإرشاد من ناحية أخرى. وقد بدأ الأمر بإنشاء «هيئة التحرير»، التى تحولت فيما بعد إلى «الاتحاد القومى»، الذى خرج منه بعد ذلك «الاتحاد الاشتراكى». وكلها عملت فى إطار من التنظيم الواحد للعمل السياسى. وبعد الأخذ بنوع من التعددية السياسية فى منتصف السبعينيات فى عهد الرئيس السادات فتح الباب لنوع من التعددية السياسية تحولت معها جميع كوادر «الاتحاد الاشتراكى» تقريباً إلى «حزب مصر» ثم بعد أن أظهر الرئيس ميله إلى إنشاء حزب جديد باسم «الحزب الوطنى الاشتراكى» تحول معظم أعضاء حزب مصر إلى هذا الحزب الجديد بسرعة إلى الحزب الحكومى الجديد. وكان تولى المراكز القيادية فى القطاع العام مقصوراً على أعضاء هذه التنظيمات. وفى الريف وحيث تتوقف حياة الفلاح على حسن علاقته بالدولة فقد كان هناك تسابق على الانضمام إلى هذه المنظمات وعن طريقها أصبح الباب مفتوحاً للتقدم لشغل وظائف العمد ومشايخ البلد. وهكذا بدا أن شكل النخبة السياسية الجديدة التى يستند إليها الحكم مختلف تماماً عن النخبة السياسية التى قامت فى بداية القرن الماضى. فهذه النخبة الجديدة هى بنت «السلطة» فالتنظيمات التى تضمها لم تنشأ بتطور طبيعى وتلقائى وإنما هى صدرت بقرارات من «السلطة»، هى تنظيمات بدأت وحيدة تحتكر العمل السياسى، وأى تنظيمات أخرى تعتبر عملاً عدائياً غير مشروع. وبعد الأخذ بنظام تعدد الأحزاب وظهور أحزاب معارضة مستقلة إلى حد ما عن الدولة فإن طابع النشأة الأولى للتنظيمات السياسية للثورة مازال مصاحباً لهذا الحزب. وإذا كانت «أحزاب الحكومة» تعانى من الخطيئة الأولى فى تبعيتها للحكومة، فإن أحزاب المعارضة وقد بدأت هى الأخرى بمبادرة من الحكومة تعانى من مرض آخر لا يقل خطورة وهو مرض «المعارضة الأبدية» ولا أمل فى الوصول إلى الحكم. وتعانى هذه الأحزاب من المحاصرة الكاملة لها ومنع نموها. فإلى جانب ترسانة من القوانين والتشريعات للأحزاب والصحافة والاجتماعات فضلاً عن الأحكام العرفية المستمرة فإن ترتيبات الحكم المحلى وسيطرة المحافظين ومأمورى المراكز والعمد تدفع الناخبين إلى مناصرة مرشحى الحكومة حفاظاً على مصالحهم اليومية. فضلاً عما يحدث أحياناً (من باب التلطيف) من استخدام كشوف أسماء للناخبين غير دقيقة. وعندما تصدر أحكام من محكمة النقض ببطلان عملية الانتخاب يظل الأمر معلقاً بإرادة مجلس الشعب الذى يسيطر عليه دائماً حزب الحكومة باعتباره «سيد قراره». وإذا كان تدخل الدولة فى التنظيمات السياسية واسعاً على النحو المشار إليه فإن تدخلها فى منظمات المجتمع المدنى ليس بأقل خطورة. فبالإضافة إلى القيود الواردة فى قانون الأحزاب وفى قوانين الصحافة، فإن قانون الجمعيات يفرض رقابة شديدة على نشاط هذه الجمعيات. وفى نفس الوقت أصبحت نقابات العمال وثيقة الصلة بالحكومة، إن لم تكن خاضعة لها. وبالمثل أصبحت النقابات المهنية مجالاً للتدخل الحكومى الشديد والمنازعات القضائية والخضوع للحراسة القضائية. وإذا كان يبدو مما تقدم أن اللاعب الأساسى فى الحياة السياسية، ما لم يكن الوحيد، هو «السلطة» أو الدولة فقد لجأت الدولة فى هذا السبيل إلى استخدام أساليب «الترغيب والترهيب»: «ذهب المعز أو سيفه». وقد تميزت الفترة الأولى للثورة، ربما حتى منتصف السبعينيات، بترجيح أساليب «الترهيب» مثل الاعتقال، المصادرة، التأميم، وحتى التعذيب الجسدى، كما تميزت الفترة اللاحقة باستخدام أساليب «الترغيب» بشكل أكبر: مزايا مالية للنقابات، رواتب إضافية، تجاوز عن بعض المخالفات. ولكل ما تقدم فقد ظهرت على السطح ظاهرة مزدوجة تتمثل فى ضعف مصداقية النخب السياسية النشطة من ناحية وعدم مبالاة من القاعدة الشعبية لما يدور فى الحلبة السياسية من ناحية أخرى. وأود التأكيد هنا أن هذه الملاحظة تتعلق بما يدور على السطح، لأن ما يجرى تحت السطح قد يكون شيئاً مختلفاً. وهكذا يتضح أن البيئة السياسية فى مصر خلال الخمسين عاماً الماضية لم تكن مناسبة تماماً لمفهوم الحرية سواء بمعناه «الجمهورى» أو «الليبرالى». فالمشاركة السياسية هى فى أحسن الأحوال شكلية. وهى ديمقراطية ل«الموافقة» أكثر منها ديمقراطية ل«المشاركة». وقد عرفت هذه المرحلة، خاصة خلال الفترة الأولى مع عبدالناصر محاولات جادة للعمل على توفير قدر من «الحرية المثالية». فقد حرصت الدولة على العمل على توفير عدد من الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وخدمات أساسية وتوفير فرص للعمل وضبط لأسعار الضروريات. وبذلك فقد كانت هناك محاولة للمقايضة بين التنازل عن الحريات «الجمهورية» فى المشاركة السياسية والحريات «الليبرالية» باحترام حقوق الفرد بمحاولة تعزيز نوع من الحريات «الموجبة»، بتوفير العيش لأكبر عدد من الأفراد وإقامة الصناعة الوطنية ودعم القومية العربية ومحاربة مظاهر الاستغلال. ومنذ نهاية السبعينيات بدأ هذا التوازن يختل مع البحث عن توازن جديد، حيث بدأت الدولة فى التراجع عن دورها فى تقديم بعض الخدمات مثل ضمان التوظيف للخريجين وارتفاع الأسعار وإلغاء أو تخفيض الدعم للسلع الضرورية وتزايد الفروقات الاجتماعية. وهذا التغير فى توازنات المفاهيم المختلفة للحرية لا يرجع فقط إلى تغير فى المزاج العام للسلطة بقدر ما يعكس نوعاً من التغير فى الأوضاع العالمية. فالفترة الأولى، التى تمثل العنف الثورى، كانت تعاصر أوج الحرب الباردة والاستقطاب بين الكتلتين الغربية والشرقية وبروز دول عدم الانحياز. وهى فى الوقت نفسه فترة ازدهار القومية العربية والعداء لإسرائيل. أما الفترة الثانية وحيث بدأ الميزان يميل تجاه مزيد من الانفتاح على الحريات «الجمهورية» و«الليبرالية» فهى تعاصر فترة انتهاء الحرب الباردة وظهور هيمنة القطب الواحد «الولاياتالمتحدةالأمريكية» والتصالح مع إسرائيل. وإذا قلنا فى السابق إن أهم ما يميز الساحة السياسية فى مصر حالياً هو الفراغ السياسى، فإن ذلك لا يعنى البتة أن الجماهير قد انصرفت تماماً عن الاهتمام بالشؤون العامة وانكفأت على المصالح الخاصة. بل ربما الصحيح أن هناك توجيهاً للطاقات إلى قنوات أخرى لعل أهمها العودة إلى الدين، وهو ما يعرف ب«الصحوة الدينية». إننا نعيش فى عالم جديد يصعب تجاهله وهو يتطلب بشكل متزايد الأخذ بصورة من الديمقراطية. وعلينا فى مصر أن نعمل لتحقيق مزيد من التصالح بين هذا التيار العالمى وبين مقتضيات الظروف الداخلية.