كان البروفسير مورتون فريش أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة شمال إلينوي الأمريكية حيث كنت أدرس للماجستير والدكتوراه هو الذي علمنا أن "الحرية" ليست القيمة المضادة للتزمت، وإنما هي حالة وسط بين التزمت والانحلال؛ وكان الرجل نفسه هو الذي قال لنا بحزم إن الديمقراطية ليست هي النظام السياسي المضاد للاستبداد، وإنما هي النظام الذي يقع بين الاستبداد في ناحية والفوضي في ناحية أخري. مثل هذا الدرس لا يعرفه كثيرون من المصريين، خاصة الليبراليين منهم الذين تختلط عندهم حالة الانحلال والانفلات مع الحرية، والفوضي مع الديمقراطية؛ وببساطة فإن الحرية والديمقراطية لا يمارسان إلا ضمن حالة من الانضباط الاجتماعي التي تقوم فيه كل جماعة بوظائفها المنظمة عن طريق وحدة سياسية نسميها الدولة. ولذلك فإن الصحف المصرية التي تركز خلال المرحلة الأخيرة علي إهانة رئيس الدولة أو كسر هيبة النظام العام عن طريق التشهير والسخرية وتوزيع الشكوك في السياسات هم في الحقيقة لا تمهد لحالة من الحرية والديمقراطية وإنما لحالة من الفوضي الاجتماعية والسياسية، وهي حالة قاهرة تماما لأنها تؤدي فورا إلي نوع من الاستبداد المروع. ولمن لا يصدق فإن عليه مراجعة حالة الليبراليين الإيرانيين الذين خلطوا بين الأمور فساهموا في كسر هيبة الدولة الإيرانية، وشككوا في خطواتها التحديثية حتي جاء الانهيار العظيم وسقطت الدولة كلها في يد جماعة استبدادية ثيوقراطية سامت الجميع سوء العذاب بمن فيهم الإسلاميون الليبراليون أنفسهم. وعلي العكس من ذلك تماما لعب الليبراليون الاندونيسيون، والليبراليون المكسيكيون دورا هاما في عملية انتقال الدولة من استبداد سوهارتو إلي دولة ديمقراطية من خلال التطور في المؤسسات القائمة في الحالة الأولي، والانتقال من الحكم المطلق للحزب المؤسسي الثوري الذي حكم البلاد منذ 1929 إلي دولة ديمقراطية ينتقل فيها الحزب المهيمن إلي مقاعد المعارضة، وكل ذلك من خلال تطوير المؤسسات القائمة. ولم تكن الحالة سهلة أبدا في الحالتين، ولا كان أصحاب السلطة علي استعداد أبدا للتخلي عن السلطات المتاحة لهم، وإنما كان علي الجماعة الديمقراطية والليبرالية أن تأخذ خطا مزدوجا يقوم علي تكثيف الضغوط علي المؤسسات القائمة مع استغلال التطور العالمي في نفس الوقت خاصة المتعلق بتكنولوجيا الإعلام، مع رفض فكرة الثورة في نفس الوقت والتي تعني هدم المجتمع علي رؤوس أصحابه ثم إعادة بنائه من جديد دون معرفة إطلاقا بشكل هذا البناء الجديد ومحتواه. ولعل ذلك واحد من أهم إشكاليات الليبراليين المصريين الجدد الذين يأخذون أشكالا أصولية في التعبير الليبرالي القائم علي كسر هيبة الدولة وتقويض منعة النظام عن طريق العنف اللفظي. ومع توالي الأيام، ورغم ارتفاع توزيع الصحف، واتساع قارئيها، فإن التساؤلات الملحة هي: لماذا لا يثور المصريون؟ وإذا كان كل ذلك الفساد قائما والاستبداد ذائعا والتحكم مستحكما فلماذا لا يثور المصريون؟. وتتفاقم صرخة التساؤل كلما أوغل السائل في وصف الحالة وصدق تعبيراته اللفظية عنها بعد أن أنكر تماما وجود ما يجعل الأحوال في البلاد هادئة. وحينما لم يجد أحد دليلا واحدا علي الثورة المقبلة فإن تعبير "الاحتقان" السياسي كان بديلا لحالة متفجرة. ولكن هناك بين الليبراليين المصريين من هم أذكي من هذه البهلوانيات النكرة، وقدم جمال حمدان صاحب "شخصية مصر" حلا للأستاذ إبراهيم عيسي حينما جعل معضلة الثورة في المصريين أنفسهم وثقافتهم السياسية وتاريخهم الطويل في لا للاستبداد والتحكم الأجنبي. وللحق فإن هذه مساحة جديدة من عالم الجغرافيا السياسية العظيم لم يعرفها قاريء الصحافة المصرية من قبل حيث جري العرف علي التركيز علي فكرة عبقرية المكان لمصر، والفارق بين موقعها وموضعها، ولكن قليلين فقط هم الذين عرفوا رأي رجلنا في المصريين الذين عاشوا في أقدم مستعمرة في التاريخ، وعلي مدي أكثر من ثلاثة آلاف عام لم يحكمهم إلا أجنبي ومستبد في آن. وفي العموم فإن حالة الثورة في مصر كانت حالة استثنائية، وفي معظم الأحوال فقد قادت الثورات إلي حالات جديدة من الاستبداد أشد قسوة، وأدت ثورة العلماء في مطلع القرن التاسع عشر إلي حكم محمد علي الذي كان تحديثيا لكنه لم يكن ديمقراطيا، وأدت ثورة عرابي إلي التراجع عن كل إصلاحات إسماعيل الدستورية، أم ثورة يوليو "المباركة" فقد أدت إلي حالة الاستبداد الناصري الذي فاق كل أشكال الاستبداد الأخري وفوقها جاء بالاحتلال الإسرائيلي لمصر. ثورة واحدة أخذت بيد مصر قليل نحو الديمقراطية وهي ثورة 1919، ولكن هذه الثورة هي الأخري أعطت في معظم الأحوال سلطات مطلقة للملك فيما عدا سبع سنوات حكم فيها حزب الوفد، وبعد ذلك أعدت البلاد لثورة يوليو "المجيدة". فالموضوع ليس أن كل الثورات تؤدي إلي الديمقراطية، بل إنه علي الأرجح فإن غالبية الثورات تؤدي إلي الاستبداد سواء كان استبداد كرومويل أو ستالين أو ماوتسي تونج أو الخميني أو عبد الناصر أو روبسبيير أو صدام حسين. ولكن هناك ثورات بعينها تتصف بالفعل بالصفة الديمقراطية بمعني أن جزءا من مشروعها هو إقامة بناء ديمقراطي سليم يكون هو الحالة الوسط بين الاستبداد والفوضي، ويتيح الحرية التي هي الحالة الوسطي بين التزمت والانحلال. وهنا فإن السؤال الأصلي حول لماذا لا يثور المصريون سوف يعاد سؤاله مرة أخري لماذا لا يثور المصريون ثورة ديمقراطية؛ وعندها سوف تكون الإجابة هو أن الأمر مرتهن بحالة الحراك الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع والدولة التي تجعل الديمقراطية حلا لتناقضات موجودة وتعبيرا عن توازنات في القوة السياسية ناجمة عن توزيع بين قوي اقتصادية متعددة. ولا يمكن تفسير التطور الديمقراطي في بريطانيا دون الثورة الصناعية، ولم يكن ممكنا أن تحدث النقلة الكبري في الديمقراطية الأمريكية بعد الحرب الأهلية في 1860 إلا بسبب تصنيع الشمال. فالحقيقة أنه بدون الصناعة، وظهور الطبقة الرأسمالية، وارتباطهما بالتفكير العقلاني القائم علي المصلحة الرشيدة فإن وجود الثورة الديمقراطية يصبح مستحيلا. وليس معني ذلك استحالة الثورة علي إطلاقها، فالثورة يمكن أن تحدث في مجتمعات زراعية أو متخلفة في العموم، ولكنها لن تزيد عن ثورة الفلاحين عام 1911 في المكسيك التي انتهت إلي حزب واحد مسيطر وفاسد، أو إلي سلسلة من الانقلابات العسكرية كما حدث في مصر وسوريا والعراق حيث جاء الضباط من أبناء الريف لكي يستولوا علي المدن ويحلون الثورة مكان الديمقراطية، والالتزام محل الحرية. وبالتالي فإن مفتاح الثورة الديمقراطية في مصر مرتبط ارتباطا وثيقا بدرجة التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يسمح بدرجة من الحراك الاجتماعي الحاد الذي يمهد للثورة أو التغيير الجذري لأوضاع من المركزية والسيطرة السياسية. وربما كانت هذه هي المعضلة الكبري لدعاة الديمقراطية والحرية والليبرالية في العموم في مصر، فهم ثائرون علي الرأسمالية المصرية ويعتبرونها متوحشة وبدائية وفاسدة، وإذا كان هذا القول صحيحا فإنه لا محل للثورة الديمقراطية خاصة، ويصبح ما يسعون إليه هو نوع من الفوضي والثورة المؤدية إلي استبداد بشع. وهم ثائرون علي الرأسمالية العالمية ولا يرون فيها إلا ملامحها الإمبريالية دون ملامحها الفكرية والإنتاجية بل وما تقدمه للإنسانية من تقدم مادي ومعنوي من أهم أفكاره انتصار الفكرة الديمقراطية والليبرالية. وعندما يكون الحال كذلك فإن الثورة في الحقيقة تصبح مستحيلة، وإذا حدثت فإنها تكون كارثة عظمي!