الهوية يوم 31 اغسطس 7491 نام كل هندي مسلم كان قراره هو البقاء في الهند كهندي، واستيقظ صباح 41 اغسطس 7491 ايضا كهندي.. أما الهندي المسلم الذي اختار ترك الهند وان يلحق بالكيان الجديد »باكستان« فقد نام يوم 31 اغسطس كهندي مسلم، واستيقظ صباح اليوم التالي 41اغسطس 7491 وقد اسقط كلمة »هندي« من صفته واستبدلها باسم جديد مشتق من كلمة »باكستان« ونظرا لان خلق هوية جديدة لا يحدث بين ليلة وضحاها، فإن الحقيقة هي ان كل »هندي مسلم« اختار مع تكوين باكستان الا يبقي هنديا، فانه في الحقيقة قد اختار ان يسقط من صفته كهندي مسلم كونه »هنديا«. وتبقي صفة واحدة هي أنه مسلم منذ تلك اللحظة، كان الهندي المسلم الذي اختار الا يبقي هنديا قد اصبح ضحية ازمة هوية كبيرة.. اي انه اختار ان تكون هويته قائمة علي اساس واحد هو الدين: فماذا احدث هذا الانسان الذي كان »هنديا مسلما« ولكنه اختار اسقاط صفة الهندي من اساس هويته؟. انشقت باكستان وانقسمت الي دولتين »باكستان وبنغلاديش« كما شهدت باكستان نصف دستة انقلابات عسكرية وتحولت لدولة »في فترات طويلة« يحكمها عسكر نجحت انقلاباتهم العسكرية. أما الهند، فلم تشهد أي إنقلاب عسكري، بل صار العالم يشير اليها كأكبر ديموقراطية في العالم، وبجانب الديمقراطية الهندية وباكستان العسكر، شهدت الهند نمو واحدة من افضل المؤسسات القضائية في العالم، بينما لم يحدث شيء مماثل في باكستان بل ان العسكر طالما تحكموا في المؤسسة القضائية الباكستانية. وبينما تحلت الهند بواحدة من افضل المؤسسات التعليمية في العالم، شهد التعليم في باكستان تدهورا هائلا، وشاعت المدارس الدينية التي ثبت انها كانت ولا تزال من اكبر مفارخ العنف والارهاب في العالم، وبينما قامت باكستان »مع شركاء عرب وغير عرب« بتغذية تنظيمات العنف الاسلامية بأهم كوادر هذه التنظيمات، فإن المجتمع المسلم داخل الهند »وعدد مسلميه اكبر من عدد مسلمي باكستان« لم يغذ منظمات العنف الاسلامية هذه بأية نسبة تذكر من افرادها. لماذا؟ لان الهندي المسلم الذي اختار ان يبقي مواطنا هنديا لم يصبح ضحية أزمة الهوية التي طحنت الهندي المسلم الذي اختار الا يبقي هنديا منذ 41 اغسطس 7491.. وازمة الهوية هذه. هي التي صاغت مسيرة ومصير باكستان والباكستانيين: انشقاق الدولة لدولتين هما بنغلاديش وباكستان، ثم سلسلة الانقلابات العسكرية، ثم حكم العسكر واجهاض المسيرة الديمقراطية. وبمحاذاة ذلك: تراجع مستويات التعليم وعدم استقلال القضاء، ناهيك عن بذور العنف وهشاشة السلام الاجتماعي. ولا يستطيع اي مفكر معني بأوجه الخلل »متعددة الابعاد« في مجتمع كالمجتمع المصري ان يتجاهل ازمة الهوية الباكستانية التي يشهد المجتمع المصري »ومجتمعات عربية اخري« ازمة هوية تتشابه مع ازمة الهوية الباكستانية في لبها أي تأسيس الهوية علي اساس الدين وليس المواطنة.. في سنة 8391 اصدر الدكتور طه حسين كتابه الأهم »مستقبل الثقافة في مصر« وعلي كثرة ما تناوله الدكتور طه حسين في هذا الكتاب، فقد تناول موضوع الهوية من خلال سؤاله الكبير عمن نكون ثقافيا: هل نحن جزء من العالم العربي؟ أم نحن جزء من العالم الاسلامي؟ ام نحن جزء من حوض البحر المتوسط.. ويمكن ان نضيف لتساؤلات الدكتور طه حسين: أم أننا جزء من افريقيا، بحكم الموقع الجغرافي؟. وفي اعتقادي ان سنوات العقود الستة الاخيرة قد احدثت ارباكا شديدا عند المصريين فيما يتعلق بكنه هويتهم.. والدليل علي ذلك أننا لو سألنا اليوم عددا من المصريين فمن المؤكد اننا سنجد بين الاجابات من يقول أننا مسلمون، وغيره من يقول أننا عرب، وغيره من يقول أننا مصريون..ومن مسببات الارباك في هذه المسألة شديدة الاهمية عاملان وهما تركيز العهد الناصري في مصر علي الهوية العربية ثم ميل ثقافة ما بعد عبدالناصر »تدريجيا« لجانب الهوية الاسلامية. ومصر اليوم في حاجة ماسة لجهود ثقافية، واعلامية وتعليمية تهدف كلها لإزالة حالة الارتباك والخلط التي اصابت هذه المنطقة شديدة الاهمية في حياة المصريين المعاصرين العقلية.. وفي اعتقادي الشخصي ان مصر بحاجة لصلح مع نفسها فيما يتعلق بمسألة الهوية.. وهذا الصلح لا يمكن الوصول اليه بتغليب جانب من جوانب الهوية المصرية علي الجوانب الاخري، فيقيني ان الصيغة الانسب للحالة المصرية هي الدفاع الثقافي عن تركيبية الهوية المصرية »أي عن حقيقة كونها مثل البصلة تتكون من عدة رقائق« فهذا الدفاع هو الوحيد القادر علي ازالة الارتباك ومنع التحزب، والفرقة. كما انه الوحيد المعبر عن حقيقة الحالة، فمن المؤكد ان الثقافة الاسلامية هي لاعب رئيس في تكوين الهوية المصرية، ولكن من المؤكد انها ليست هي اللاعب الوحيد.. ومن المؤكد ان الثقافة العربية هي لاعب رئيسي في تكون الهوية المصرية المعاصرة.، ولكن بنفس القدر فمن الخطأ الزعم بأنها هي اللاعب الوحيد »وقد يكون من الضروري هنا ان ألفت الانتباه لحالة الزعيم الوطني القبطي مكرم عبيد والبطريرك المصري المعاصر البابا شنودة الثالث، اذ ان المؤكد ان اللغة العربية مثلت في حالتيهما الخطابية والشعرية اداة رئيسية من ادوات دوريهما المؤثرين، وبالتالي من معالم هويتهما. وخلاصة القول، ان موقع مصر الجغرافي هو الذي تسبب في تركيبة هويتها »اي كونها هوية ذات عدة رقائق« وغرس اليقين بتركيبية الهوية المصرية بأبعادها العربية والمسلمة والقبطية والبحر متوسطية هو البديل الوحيد لانحراف عربة الهوية المصرية الي طريق تماثل الطريق التي سارت عليه عربة الهوية الباكستانية. ولا توجد امامي اداة الاصلاح حالة الارتباك الشديدة في بوصلة هويتنا المصرية الا من خلال النظام التعليمي، والتحدي هنا ليس كبيرا فقط، وانما بالغ التعقيد، فمن السهل للغاية حشو برامج التعليم ومواده بما يدعم الانتصار لهوية عربية صرف اي خالية من الابعاد الاخري. ومن السهل للغاية ايضا تخريج ابناء وبنات المجتمع بفهم للهوية يربط بينهما وبين الدين، ولكنها كلها خيارات تحمل في طياتها من بذور تشقق المجتمع وانعزاله في نفس الوقت عن العصر الكثير. اما الخيار الاسلم والاصح فهو صعب للغاية بطبيعته، اذ يتمثل في مادة تعليمية تعلم ابناء وبنات المجتمع انهم في المقام الاول والاخير »مصريون« كما تعلمهم ان مصريتهم هي ثمرة تاريخ مصري قديم وحقبة قبطية وقرون اسلامية وثقافة عربية والعديد من المؤثرات المرتبطة بموقع مصر كأحدي الدول الرئيسية علي البحر المتوسط، ولكن هذا الخيار الصعب هو الخيار الوحيد الذي يحقق في آن واحد غايتين كبيرتين: أما الغاية الاولي، فهي السلام المجتمعي والانسجام والتناغم بين مكونات المجتمع، وأما الغاية الثانية فهي القدرة علي اللحاق بمسيرة التقدم الانساني. 2- التعليم: تكاثرت في الفترة الاخيرة الكتابات والحوارات التي ركزت علي رسالة اساس جوهرها ان ايجاد نظام تعليمي عصري وخلاق هو الحل الاوحد لكل مشكلات واقعنا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. كما ان ذلك هو المنفذ الوحيد من شيوع فهم وتفسيرات للدين مناقضة للعلم والعصر. ولكنني اظن ان هناك خلطا واضحا بين العديد من الامور المتصلة بهذه القضية ذات الاهمية القصوي. فالبعض لا يستطيع ان يري ان الانتظام »الضبط والربط« وان كان ضروريا في كل المؤسسات التعليمية »بل وفي سائر المؤسسات« فإنه لا يصنع تعليما عصريا وخلاقا ومواكبا لتحديات زماننا، كذلك فإن البعض يري في انشاء مزيد من الابنية التعليمية حلا للمشكلة والحقيقة ان جوهر التحدي »في هذا الشأن« انما يتعلق بثلاثة امور: الاول، هو الفلسفة التعليمية والثاني، هو المادة التعليمية »او ما يسمي بالمقررات« والثالث هو المعلم. أما الفلسفة التعليمية، فأعني بها أن يكون لدينا إجابة مصاغة في شكل رسمي عن السؤال التالي: ما هي اهدافنا من التعليم؟ وهنا فنحن بصدد البحث عما يسمي في علوم الادارة الحديثة بالرؤية »VISION« ويمكن ان تكون رؤيتنا في هذا المضمار »لمجرد اعطاء مثال« كالتالي» تهدف المنظومة التعليمية في مصر لتكوين مواطن ومواطنة ينتميان للعصر ويؤمنان بالعلم والانسانية والتقدم ويمتلكان ادوات البحث والحوار والنقد والتعامل مع معطيات العصر العلمية والبحثية ويؤمنان بان العلم والتكنولوجيا قادران علي خلق شروط حياتية افضل كما يؤمنان بعالمية المعرفة والعلم ويكون بداخلهما توازن بين الفخر بماضي مجتمعهم والحرص علي انتماء مستقبلهم للعصر والعلم المدنية«. كما يجب ان يكون من اهداف المنظومة التعليمية غرس قيم التقدم في عقول وضمائر ابناء وبنات المجتمع، واهم هذه القيم هي اعلاء قيمة العقل والتدريب علي قبول النقد وممارسة النقد الذاتي والايمان بالتعددية والسماحة بكل صورها واشكالها وقبول الاخر واكبار قيمة العلم والتقدم والايمان بالانسانية. والعيش المشترك بين الثقافات المختلفة وتقديس حقوق الانسان والايمان بحقوق المرأة كشريك في صنع واقع افضل. ومن المهم للغاية ان تشير الفلسفة التعليمية لحتمية الانتقال من المنظومة التعليمية الراهنة القائمة علي التلقين والحفظ واختبارات الذاكرة لنظام حديث يقوم علي اعلاء قيمة التفكير الحر والمبادرة والحوار والجدل والاختلاف وتنمية القدرات الابداعية للتلاميذ والتلميذات حتي لو وصل ذلك لحد اختلاف التلميذ او التلميذة مع وجهات نظر المعلم او المعلمة. وأما المادة التعليمية فيجب من جهة ان تكون مجسدة ومشخصة وخادمة للفسلفة التعليمية التي يتفق عليها، وان تكون من جهة اخري مواكبة لأحدث معطيات العلوم التطبيقية والاجتماعية. أما المدرس »وهو لب المنظوية التعليمية« فيجب من جهة ان يكون قادرا علي تحويل الفلسفة التعليمية الي واقع يتمثله اولاد وبنات المجتمع، كما يجب ان يكون قادرا علي الانتقال بالتلاميذ والتلميذات لنظم تعليم قائمة علي حرية التفكير والحوار والجدل والبحث والنقد والاختلاف. 3- الديموقراطية: رغم كل ما يقال »من قبل البعض« عن أن لكل ثقافة ديموقراطيتها الخاصة بها، فإن الحقيقة التي لا مهرب منها ان جوهر الديمقراطية لا يتبدل من مكان لآخر. وجوهر الديموقراطية ثلاثة أمور.. اولا. أن يأتي الحكام للحكم بإرادة شعبية حرة، ثانيا ان يحكم الحكام بقواعد دستورية يكونون خاضعين لها كما يكونون قابلين للمساءلة اثناء وبعد فترة الحكم، ثالثا ان يترك الحكام الحكم بشكل دستوري، والا تكون فترة »أو فترات« حكمهم مؤبدة. ومما لا شك فيه ان كل القوي التي هي غير ديمقراطية بطبيعتها تحاول الان في العديد من المجتمعات ان تختزل الديموقراطية في عملية الاقتراع اي في صندوق الانتخاب والحقيقة ان جوهر الديمقراطية الحقيقي ليس هو الانتخاب وانما تدرج عملية الاختبار من البداية للنهاية، فالديمقراطية هي دستور عصري بمجتمع مدني ناضج، ومؤسسات فاعلة بهذا المجتمع المدني، واحزاب متساوية في الحقوق والواجبات والفرص، وقضاء عصري مستقل، ونظم لضمان المساءلة والشفافية. واعلام ناضج تجاوز طور الصراخ والفضائح ثم اخيرا عملية الاقتراع. ولا شك ان هناك علاقة جدلية واضحة.. ومؤكدة وفاعلة بين قضيتي الهوية والتعليم من جهة وبين قضية الديموقراطية من جهة اخري، فالارتباك الحادث في منطقة الهوية يؤثر تأثيرات سلبية بالغة علي عملية الاختيار التي هي جوهر الديموقراطية ويجب ان يقال نفس الشيء عن التعليم، فالتعليم العصري الحر القائم علي الابداع واطلاق العنان للتفكير وحرية النقد والاعلاء من شأن العقل هي كلها عناصر تحول العملية الديموقراطية من اطر شكلية وهيكلية الي الية حقيقية لتحويل الاختيار الي قرار. 1