يمكن للمرء أن يحدد بالضبط تاريخ بروز الصين كقوة عظمى. كان ذلك فى مساء 8 أغسطس عام 2008، خلال الاحتفالات الافتتاحية لأوليمبياد بكين. كان هذا الحدث يرمز بشكل تام إلى بروز الصين، وكان عرضا رائعا ومكلفا يعتمد على قدرة تنظيمية هائلة، من إخراج حكومة البلد الشديدة الكفاءة. قد ننظر إلى الوراء بعد بضع سنوات ونحدد تاريخ حفل بروز الهند على أنه كان فى 18مايو عام 2009، وهو اليوم الذى أعلنت فيه نتائج الانتخابات التى أجريت أخيرا فى البلد. هذه الانتخابات كانت أيضا رمزا ملائما. فى هذه الحالة لمواطن قوة الهند الفريدة، التى تحددها قوة الشعب وليس قوة الدولة، بكل ما ينطوى عليه ذلك من فوضى. مع تصويت 420 مليون شخص، كانت الانتخابات الأخيرة أكبر ممارسة ديمقراطية فى التاريخ. لكن الأهمية العالمية للانتخابات والسبب الذى قد يجعلها تعنى بداية عصر جديد للهند على الساحة العالمية لا تكمن فى حصول الانتخابات بحد ذاتها بل فى نتائجها. خلال العقدين الماضيين، شهدت الهند انقسامات داخلية حادة كان لها تأثيرات عميقة: انقسامات طبقية وعرقية ودينية. وهذا صعب على الحكومة فى نيودلهى، حشد القوة الوطنية لتحقيق أى غاية مجدية فى الشئون الدولية. كما أن النظام السياسى اللامركزى والمنقسم كان له وزن أقل بكثير من وزنه الحقيقى على الصعيد الدولى. هذا أمر سىئ بالنسبة إلى الهند والعالم أيضا. لكن كل ذلك قد يتغير الآن. للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود، أعطى حزب واحد وهو المؤتمر الوطنى الهندى تفويضا واضحا وشاملا. الناخبون الهنود هم من بين الأفقر والأقل تعلما فى العالم، ومع ذلك صوتوا بذكاء مدهش. لقد كوفئ حزب المؤتمر الوطنى الحاكم على النمو الاقتصادى الذى شهدته البلاد. وخلافا لآمال الكثير من النقاد اليساريين فى الهند، فإن الناس يؤيدون الانتقال نحو اقتصاد أكثر انفتاحا (وبالتالى أكثر إنتاجية). ويتجلى ذلك فى عدم فوز حزب المؤتمر الوطنى فى كل المناطق. فالحكومات الإقليمية التى سعت أيضا إلى تعزيز النمو (فى أوريسا وبيهار) كوفئت بدورها. والأحزاب التى منيت بخسارة فادحة كانت تلك التى ركزت على استغلال الخوف والحقد والهوية، مثل حزب بهاراتيا جاناتا القومى الهندوسى، ومجموعات أصغر تركز على الطبقية. فى السنوات الأخيرة، بدا أن الديمقراطية فى العالم وقعت ضحية لشرين. أولا، بدا أن السياسة الشعبوية تتفوق على الإصلاحات الاقتصادية. وثانيا، فى زمن الإرهاب، أصبح الخوف وسيلة سهلة للحصول على التأييد السياسى. (هذه المشكلات أثرت فى الديمقراطية فى بلدان غنية مثل أمريكا بقدر ما أثرت فى بلدان فقيرة). غير أن النتائج الهندية تناقض كلا المفهومين. فحزب المؤتمر الوطنى ركز على الإصلاح الاقتصادى وتمتع بمسئولية عالية فى مسائل الإرهاب والتسامح. وقد اختار ضبط النفس بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة على مومباى، وتهجمت عليه المعارضة باعتباره ضعيفا. لكن الناخبين لم يقتنعوا. هذا الفوز هو تفويض ليس لحزب المؤتمر الوطنى فقط بل للثلاثى المدهش داخله أيضا، المؤلف من رئيس الوزراء مانموهان سينج، وزعيمة الحزب سونيا غاندى، وابنها راؤول غاندى، البالغ 38 عاما. لقد أمضى هذا الأخير السنوات القليلة السابقة يحقق ما بدا مستحيلا، إعادة إحياء القواعد الشعبية لحزب المؤتمر الوطنى، الذى كان قد أصبح على مر السنوات الأخيرة ساحة للتملق والفساد أكثر منه منظمة سياسية. فقد قام بسلسلة من الرهانات الإستراتيجية الكبيرة خلال الحملة، لتقديم مرشحين شبان وعدم التحالف مع الأحزاب الطبقية. وكانت كل من هذه الرهانات رابحة. لطالما شكك الإعلام، خصوصا فى الهند، فى قدرات سونيا وراؤول غاندى السياسية. ومع ذلك، قادا الحزب خلال فوزين انتخابيين فى غضون ست سنوات، وهما يعيدان إحياء حزب مترهل، وقد حققا كل ذلك وحافظا فى الوقت نفسه على التزامهما بالعلمانية والإصلاح الاقتصادى والحكومة الصالحة. (سينج هو الرجل الأكثر نزاهة فى السياسة الهندية منذ ثلاثة عقود على الأقل). لم تشغل الوالدة أو الابن منصبا حكوميا حتى الآن، وبينما يمكن وصف ذلك بأنه تخطيط ذكى أو بأنه تحين للفرصة الملائمة، فكم شخصا كانوا سيظهرون هذا الانضباط لو عرض عليهم منصب رئيس وزراء ثانى أكبر بلد فى العالم فى عدد السكان؟ التحدى الأكبر للعالم فى القرن ال21 يكمن فى إيجاد طريقة لإدخال الهند والصين والبرازيل إلى النظام الدولى. وغالبا ما تعتبر هذه المهمة من مسئولية الغرب. لكن الأمر المهم بالقدر نفسه هو أنه يجب على القوى النامية أن تلعب أدوارها الدولية وتتصرف بشكل مسئول على الساحة العالمية. هذا يعنى اعتماد وجهات نظر عالمية وليس وطنية ضيقة فى مسائل مثل الإرهاب والطاقة والبيئة والتجارة والأمراض ومنع انتشار الأسلحة النووية. هذه الانتخابات فوضت الحكومة الهندية الأكثر ترجيحا مقارنة بكل الخيارات الأخرى لاعتماد مقاربة مسئولة فى دورها العالمى. وبالرغم من القيود السياسية الشديدة، تمكن رئيس الوزراء سينج من إعادة توجيه سياسة البلد الخارجية. بفضل هذا التفويض الوطنى، يمكنه أن يتصرف بشكل أكثر شمولية وأكثر جرأة على كل الأصعدة. لقد قال وينستون تشرشل: «الهند تعبير جغرافى. فهى ليست أمة موحدة، تماما مثل خط الاستواء». كان تاريخ إنجازات تشرشل سيئا جدا فيما يتعلق بالهند. فحينما كان رئيسا للوزراء، رفض منح المستعمرة استقلالها قائلا: «لم أصبح رئيس وزراء الملك كى أترأس عملية تصفية الإمبراطورية البريطانية». بعد خمس سنوات، نالت الهند استقلالها. الآن، وبعد أكثر من 60 عاما، تغلبت الهند من جديد بذكائها على السير وينستون تشرشل.