تتفاقم يوما بعد يوم أوضاع الصحافة القومية ، وتحاصرها الأزمات الاقتصادية حتي أصبح هاجس كل من يتولي ادارتها أن يدبر أجور العاملين بها كل شهر ،سواء بالتصرف في ودائع "اذا كان لايزال لديها ودائع " أو بانتظار منحة المجلس الأعلي للصحافة أو بالاقتراض من جهات أخري "اضطرت احدي المؤسسات العاجزة للاقتراض من مؤسستي الأهرام والأخبار لدفع مرتبات العاملين بها الشهر الماضي ". ولاشك أن هذه الازمة هي جزء من أزمة اقتصادية عامة تعانيها البلاد بعد ثورتين تأثرت بهما كل مواقع العمل وأغلقت كثير من المصانع ، لكن أزمات الصحافة القومية ليست وليدة اليوم بل نتيجة سنوات الفوضي والاهمال وعشوائية القرارات التي أدت لوصول مديونياتها ل13 مليار جنيه "متأخرات الضرائب والتأمينات والقروض " وهو رقم لن تستطيع أن تفي بنصفه في ظل خزائن صارت شبه خاوية بعد تأثر التوزيع في اغلب الاصدارات وتراجع الاعلانات بتأثير عدم الاستقرار السياسي وارتفاع أسعار الاعلانات في الوقت الذي اتجه فيه المعلنون للاعلان المرئي لتأثيره الأسرع والأقوي كما تواجه كثير من المؤسسات مشاكل مع ادارات الاعلانات التي يرفض العاملون بها تخفيض نسبة ما يتقاضونه من عمولات وقد ظلت لعبة القط والفأر تحكم علاقات المؤسسات القومية بالدولة ففي ظل حالة الرضا عمن يديرونها تتغافل عن هذه المديونيات ، وفي حالات أخري تبقي الملفات المفتوحة وجاهزة لهذا تعامل رؤساء المؤسسات في عهود سابقة بثقة أن الدولة ستتدخل في الوقت المناسب وترفع عنهم هذه المديونيات ، كما تم تغييب أي آليات للحساب فتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات كان مصيرها الحفظ في الأدراج ، ولم تجر أي محاولة لاصلاح الخلل وجدولة المديونيات وبدت المؤسسات كما لوكانت فوق المحاسبة ، كما دفعت ثمن سياسات خاطئة اتجهت الي التوسع في الاصدارات المتخصصة ، تحت دعاوي براقة وهو ان المستقبل للصحافة المتخصصة لكن المشكلة أنها صدرت دون دراسات جدوي مسبقة لمعرفه مدي تقبل القارئ لها وهل تضمن نصيبا من تورتة الاعلانات التي يحتاجها أي اصدار صحفي لكي يضمن انتظام صدوره بل ان بعضها صدر لارضاء أشخاص بعينهم ثم ما ترتب علي ذلك من تعيينات لأعداد كبيرة من الصحفيين والعمال والاداريين ،فقد جري اصدار صحف تعود "بربطتها " الي المخازن فهناك صحيفة يومية لا يتجاوز حجم توزيعها ألفي نسخة في أحسن الحالات وقد تم تعيين نحو سبعين صحفيا بها يتجاوز متوسط دخولهم أضعافا مضاعفة لما يحققه الاصدار ، وهناك اصدارات قديمة تجاوزها الزمن وفشلت في تطوير نفسها وصار وجودها عبئا كبيرا علي المؤسسات ويدرك خبراء الاعلام أنه من الصعب أن تعيد الحياة الي صحيفة هجرها قراؤها والأسهل ان تصدر جديدا " وصارت هذه وتلك تعيش علي دعم الدولة سواء بمصاريف الطبع والورق أو بمرتبات وحوافز ومكافآت العاملين فهل هناك تكية أكثر من ذلك ؟ ولأن مايجري في الصحف القومية لا يخضع لأي معايير اقتصادية فقد جري اصدار صحف لاتوزع وتعيين صحفيين وعمال واداريين علي قوة مجلات لا توزع ، بل وصرف مكافآت شهرية علي اصدارات خاسرة بالمعايير المهنية والاقتصادية مما قفز بحجم المديونية الي هذه الأرقام الخيالية ،و حولها الي صورة من المؤسسات الحكومية المترهلة التي تنوء بأعداد كبيرة من العاملين ، فأي صحيفة أو مجلة يمكن أن تصدر بشكل أقوي بنصف عدد العاملين بها " ان مواجهة الخلل أصبح أمرا لامفر منه أمام المجلس الأعلي للصحافة بتشكيله الجديد الذي يوحي بالثقة والأمل بعد أن فشلت المسكنات طوال السنوات الماضية وأصبحنا في مواجهة أزمة حقيقية داخل المؤسسات القومية التي تحتاج لاعادة هيكلة برؤية اقتصادية تستفيد من الأصول الكبيرة التي تملكها والعمالة التي تضمها وتضع معايير مهنية جديدة تضمن لها الانطلاق والمنافسة بقوة مع الصحافة المستقلة ، وتضع آليات لمحاسبة المسئولين عنها سواء من رؤساء التحرير أو مجالس الادارة . وتمنح مهلة أخيرة للاصدارات تحررها من تحميلها بالمصروفات غير المباشرة في بعض المؤسسات حيث تجري معاملتها كما لو كانت اصدارا غير شرعي ومحاسبتها في نفقات الطبع بأعلي سعر عن الأسعار التجارية ، فاذا لم تحقق هدفها تحول الي اصدار اليكتروني وقد فعلتها صحف عريقة قبلنا تدار بمنطق اقتصادي وليس بمنطق "جبر الخواطر " فتحولت صحيفة مثل "كريستيان ساينس مونيتور " بعد مائة سنة من صدورها الي صحيفة اليكترونية ، ان أول خطوة في اصلاح المؤسسات القومية هو ضمان ضرورة استقلالها عن النظام الحاكم أيا كان وتحريرها من التبعية وضمان حق تداول المعلومات في التشريعات الجديدة ومنع الحبس في قضايا النشر والاكتفاء بالغرامة . ان التهاون في مواجهة أزمات المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة سوف يؤدي الي استمرار نزيف المال العام وستظل تعامل بمنطق التكية اذا لم تتخذ خطوات جادة لانقاذها من مصير لم يعد مجهولا عقب خروج العمال في بعض المؤسسات الي الشوارع يقطعونها والي المطابع يوقفونها بعد أن تأخرت مرتباتهم .