د. أحمد درة لا يستطيع ضمير الكاتب ان يتجنب ما حدث يوم الجمعة، الذكري الثانية لثورة يناير، ذلك لان مصر بأسرها تتعرض لخطر داهم وتشرف علي فوضي عارمة، من المستحيل إذا وقعنا فيها ان نعود إلي شرف الثورة وأهدافها النبيلة، وليس يسعد هذا الضمير الوطني ابدا ان نري بلدنا تحترق كما حدث واحترقت من قبل في يناير 25 من قلبها القاهرة، واليوم يبدو ان الأطراف مرشحة لذلك مع القلب في آن واحد. ولقد تسارعت الأحداث بالقدر الذي يفقد أي طرف من الأطراف المتصارعة علي الساحة السياسية قدرته علي السيطرة وضبط الأمور، وتسييرها في أعنتها الطبيعية أو المرجوة، وهذا ما يفسر مبدئيا تحول التظاهرات السلمية إلي عنف متبادل وحرائق تستعر لتلتهم الجميع في لحظة سنندم عليها في آخر المطاف. وما يحرق القلب حقا ان الأحلام الجميلة والآمال العريضة تبخرت وحل محلها يأس وقنوط يلف أفق المواطن المصري اليوم، لانه يشعر بابتعاد المسافة بينه وبين الحكومة التي يفترض ان الشعب هو الذي جاء بها لتسعده وترفع عنه المحن وقسوة المعيشة، فإذا نحن أمام مشكلات عميقة ضاربة بجذور شديدة في باطن الأرض، ولا أحد لديه في الوقت الحالي القدرة الكافية علي نزع هذه الجذور من تربة تشربت الفساد علي مدي طويل من الزمن، صعبت ان يقتلها الذين تصدوا لها بنفس منطق السابقين عليهم. اذن هناك أزمة مركبة لاحت بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وتبدت في صراع سياسي، لم يكن هذا وقته، حيث ان البلد منهكة ومعطلة عن العمل منذ سنة وبضعة شهور، وهناك أيضا من يتربص بالثورة التي غيرت وجه مصر وفجرت المكبوت والساكن في أعماق الشعب، ومن يخشي ان يصيبه شرر الثورة من الأنظمة المستبدة في المنطقة، ولا استثني القوي المتحالفة منذ عقود طويلة، التي لها مصلحة في الابقاء علي انفراد إسرائيل بالمنطقة والتحكم فيها بأي شكل. كل ذلك وأكثر هيأ الأوضاع في مصر إلي أزمات سياسية واقتصادية يسلم بعضها لبعض وتتفاقم لتصنع مزيدا من الأزمات، وتؤجج نار الانتفاض من جديد ضد من يحكمون الآن، وبالرغم من ان التجارب التي نجحت من حولنا في انقاذ الاقتصاد من براثن الصراع السياسي كالتجربة التركية والماليزية، إلا أن ما يحدث في مصر الآن قد تجاوز هذه المرحلة واشتط بها بعيدا، حيث لا وفاق جري بين القوي السياسية ونتج عن ذلك دستور لا يزال يحتاج إلي تعديل باعتراف الطرفين، المؤيد والمعارض له. ومن المؤكد ان اندلاع الصراع بين الرئاسة، المؤسسة الكبري في الإدارة التنفيذية والقضاء مهما كانت الآراء في ضرورته التي ساقها الرئيس ليبرر التحصينات الموجودة في الإعلان الدستوري، كانت سببا مباشرا في التبكير بانقسام حاد وعميق في صفوف المجتمع المصري والساحة السياسية، كان يمكن ان يكون مقبولا في مرحلة لاحقة فيها من الاستقرار ما يكفي لدفع عجلة الاقتصاد وعدم تأثرها بأي خلافات أو انقسامات من أي نوع. وليس لأحد ان يغفل هذه الدرجة القصوي من انعدام الثقة بين الأطراف الوطنية، التي كانت بالأمس في ميدان التحرير علي قلب رجل واحد، لم يكن ليلههم عن هدفهم أي شيء مهما كان ومهما حفزته الرغبة في الأعماق، وما كانت لتنجح الثورة في الإطاحة بمبارك لو ان طرفا فكر ولو للحظة في مصالح خاصة أو محدودة، كانت الطموحات أوسع بكثير من ان يختص فريق بها لنفسه، فجاءت الثورة عظيمة وفجرت في ثمانية عشر يوما أنفس ما في الشعب المصري، هذا هو الفارق بين اللحظتين، ولا أحد يمكن بعد ان يزايد علي وطنية أحد، فرفاق الثورة أحق ان يعيدوا تقييم الموقف الآن، لابد ان يصفوا لبعضهم البعض وأن تعلو الضمائر فوق الصغائر، ان هذا الشعب لم يثر لكي ينتهي به الأمر أن يقتل بعضه بعضا أو ان يعود العنف حكما بين الأطراف. مصر الآن تحتاج إلي حكماء في كلا الفريقين يردونها إلي طريق الصواب وجادة الأمر، فلن ينفع ان تراق الدماء لاننا غير قادرين علي الحوار وتقبل الآخر الذي هو من لحمي ودمي، دماؤنا حرام بيننا، أموالنا التي تنزف وتحرق هي الأخري حرام بيننا، ألا يدكر أحد منكم ؟ ألا نخجل جميعا من أنفسنا وقد قطعنا العهود وجهرنا بالوعود، لا سبيل إلي غاياتنا النبيلة اليوم، إلا بالعودة إلي رشدنا وتجنيب أي مصالح ومآرب هي أدني من مآربنا الأعظم والأجل لإرضاء الله عز وجل، هي بلدنا التي تئن وتصرخ الآن مما نفعل بها.