يا ليالي البشر يا احلي الليالي.. دخلت ميدان التحرير اول مرة بعد انتصار ثورة يناير برفقة فريد الاطرش ومع انه لم يكن ثوريا كما يجب كقريبته السورية منتهي الاطرش التي تفتخر بها الثورة السورية والنساء السوريات، فقد وجدت صوته في ذلك اليوم يوحي، ويلهم فعنده قبل النكديات المعروفة ومرحلة »عدت يا يوم مولدي« التي توقف بيأسها المراكب السايرة اغنيات ترشح بالتفاؤل والايمان بالمستقبل ومعظمها في فيلم مبكر عجيب عن ثورة الشباب شاركته فيه البطولة شقيقته اسمهان، ونحته هنري بركات نحتا متقنا وقام فيه مع حلمي رفلة بكل شيء تصويرا واخراجا ومونتاجا واضاءة ومكساجا واكسسوارات. واجمل اغاني ذلك الفيلم اغنية يوم انتصار الشباب، وفيها وانت تطير علي بساط الامل مع صوت فريد واسمهان تري اليأس يتبخر، وتسمع صوت الارادة الشبابية التي يظنها البعض راسخة واضحة بسبب السن اليافع وحده ولو تمعنوا لوجدوا ان اليأس كالاشجار يمد جذورا عميقة، ويتحول إلي حالة يصعب استئصالها من النفوس، فالشباب يتحرك ويغير ويثور وهنا السر لان جذوره ليست ضاربة بعمق في تراب اليأس كالأجيال التي عاشت حقبا من الخوف والحرمان والقمع في ظل الاستبداد الشرقي الذي يوصف تاريخيا بانه الاسوأ في العالم، ولا يكذب ممثلوه المعاصرون خبرا فهاهم يثبتون في سوريا ولبنان واليمن انهم شر خلف لاسوأ سلف، فقبل القذافي والاسد وصالح لم نسمع عن قصف مدنيين من قبل جيوش بلادهم بالمدافع الثقيلة والمضادة للطائرات والدروع. نعم دخلت ميدان التحرير الذي ستنصب وترفع خيامه مرات كثيرة برفقة صوت فريد الاطرش واسمهان، والفنان المصري سعيد الفرماوي الذي كان يداعب شباب الميدان بقوله ان الثورة السورية جاءت لتلتحم مع ثورة مصر، ولم تكن الثورة السورية - ونحن في منتصف فبراير شباط - قد انطلقت بعد لكن كل شيء كان واضحا فاعصار الغضب الساطع الذي انطلق من سيدي بوزيد التونسيةو توقف وقفة مباركة في القاهرة كان في طريقه شرقا مما اعطي الوقت لورثة الاستبداد الشرقي ان يستعدوا ويهيئوا جيوشهم ومخابراتهم للفتك بشعوب عزلاء بها جوع تاريخي سحيق للكرامة. منذ بداية الحبل الذي جعل منه سورا ووقف عنده شبان يدققون في هوية الداخلين حفاظا علي الامن كنت ادندن بيني وبين نفسي بالمقطع الاكثر تفاؤلا من اغنية شجية ساحرة في ذلك الفيلم القديم - الجديد: صوني الخدود في شبابك عن دموع العين كل الامور تنتهي والعسر بين يسرين الزرع لسه بأوله والزهر فين يوم انتصار الشباب للصابرين موعود بكرا دموع الفرح تمحي دموع البين ولم يزعم فريد الاطرش ولا هنري بركات أو حلمي رفلة انهم تنبأوا بثورة يناير وانتصارها بتأكيدهم علي كل المعاني النبيلة في »يوم انتصار الشباب« فقد تركوا ذلك لمحمد سلماوي الذي تزعم رواية حديثة له انها تنبأت بالثورة، ولا غضاضة في ذلك فالثورة الناجحة لها الف اب، اما الثورات التي لم تنتصر بعد، فتحس باليتم المرير، ورغم قناعتنا بان الثورة السورية منتصرة لا محالة لا بأس ان نطلق عليها من باب الامر الواقع حاليا اسم »الثورة اليتيمة« فلا عرب معها ولا مسلمون ولا اجانب، ولا كفرة، وها هي تودع مجزرة لتستقبل اخري وشبابها اكثر تصميما علي النصر، وسينتصرون فلا شيء يقف عائقا امام عزيمة شعب يطلب استعادة كرامته ولا امام عزيمة شباب تعلق قلبه بعروس بحر وحورية بر اسمها حرية. والحق الحق اقول لكم انه ما من احد تنبأ أو توقع ما حدث، ولي ان استثني من ذلك التعميم مفكرا مصريا لمع كالشهاب ثم انطفأ مبكرا في عز الشباب اسمه احمد عبدالله روزة تحدث من منطق التحليل الدقيق لا التنبؤ عن وصول كل صراع إلي »لحظة ذروة« تنتهي مصادمة أو مصالحة بتغيير في بنية النظام، وهذا يشبه إلي حد كبير نظرية »البارادايم« المتمثلة حسب مبتكرها »توماس كون« بالوصول إلي مفرق تكون فيه النخب الفاعلة في المجتمعات قد توصلت إلي قناعة بان عهدا انتهي واخر بدأ وان عليها ان تضغط بكل الوسائل عنفا وسلما لتسهيل القيصرية. ومهما كانت التحليلات أو التنبؤات، ففي كل الخلفيات حالة من التراكم الخلاق الذي يوصل الامور إلي مساراتها الطبيعية اعصارا أو صحوا، وذاك ما يسميه العلماء والمفكرون ب »اثر الفراشة« تكريسا لنظرية عالم الرياضيات »ادوارد لورنز« الذي اعتقد ان رفة جناح الفراشة علي رقتها تؤثر في اتجاه الرياح وقد تسبب اعاصير في اماكن بعيدة ومن تلك النظرية كما اظن اقتبس سلماوي عنوان روايته »اجنحة الفراشة« ويوظفها نشطاء المجتمع المدني للايحاء بتأثيرهم البطيء والفعال في آن، اما الافضل تعبيرا عن ذلك كله فالراحل - الباقي محمود درويش حيث يقول: اثر الفراشة لا يري اثر الفراشة لا يزول هو جاذبية غامض يستدرج المعني ويرحل حين يتضح السبيل وقد اتضحت سبل وتلفعت بالضباب المقلق سبل اخري، فطلائع القوي المضادة للثورات في المجتمعات العربية اعادت تجميع نفسها منتشية بالفتك الفظيع الذي تمارسه كتائب القذافي والاسد وصالح لتعيد الزمن إلي الوراء لكن هيهات، فمع ان سرقة الثورات اسهل من سرقة بيض الدجاج من مزرعة مهجورة إلا ان ما يترسخ يخلق حالة تراكمية جديدة، ويصعب سلبه، فعقارب الساعات لا تعود إلي الوراء إلا في افلام الخيال العلمي. 1. لقد انتهي زمن الاستبداد، وبدأ زمن اخر فيه قلاقل وصعوبات لكنه علي صعوبته وقلاقله يشي بزمن جميل »زمن انتصار الشباب« ويحمل بالرغم من غيومه وعودا زاهيات، وبشائر، فالخيام تنصب وترفع، والثورات كالحروب كر وفر، وميدان التحرير مقيم لا يمكن نقله من مكانه، ولا يمكن شطبه من الذاكرة، ولا محو اثاره النبيلة من القلوب والعقول والضمائر.