بينما تعتبر الصحة والتعليم أوليتان أساسيتان لجميع المصريين علي حد سواء وزادت أهميتها بعد ثورة 52 يناير، كضرورتين من ضرورات العدالة الاجتماعية.. خاصة بعد أن زادت أعداد المرضي بالأمراض الخطيرة نتيجة لإهمال النظام الساقط سنوات طويلة توفير أدني مستويات حماية صحة المواطنين من التلوث ومسببات الأمراض، مع انهيار تام للمرافق الصحية، واتفاع تكاليف العلاج كان المتوقع ان يستجيب الدستور الجديد لحاجة الشعب إلي توفير الخدمات الصحية لسواده الأعظم، الذي طال ظلمه. لكن مشروع الدستور المزمع طرحه للاستفتاء خذل الشعب، فنصت المادة 26 علي: الرعاية الصحية حق لكل مواطن، تخصص له الدولة نسبة كافية من الناتج القومي. وتلتزم الدولة بتوفير خدمات الرعاية الصحية، والتأمين الصحي وفق نظام عادل عالي الجودة. ويكون ذلك بالمجان لغير القادرين، وتلتزم جميع المنشآت الصحية بتقديم العلاج الطبي بأشكاله المختلفة لكل مواطن في حالات الطواريء أو الخطر علي الحياة. وتشرف الدولة علي جميع المنشآت الصحية، وتتحقق من جودة خدماتها، وتراقب جميع المواد والمنتجات ووسائل الدعاية المتصلة بالصحة وتصدر التشريعات وتتخذ جميع التدابير التي تحقق هذه الرقابة. وهكذا ميزت المادة بين مواطنين قادرين، سيدفعون تكاليف، أو جزءا من تكاليف الخدمات الصحية عامة، والتأمين الصحي بخاصة بينما يكون ذلك بالمجان فقط للمواطنين غير القادرين. وهذه أول سلبية في دستور ما بعد ثورة 52 يناير. وتراجع حتي عن دستور 1791، الذي كنا نتوقع تجاوزه للأفضل، لأن دستور 1791 لم يكن يفرق بين مواطنين قادرين ومواطنين غير قادرين في الحق في الرعاية الصحية. فضلاً عن أن دستور 1791 لم يستخدم تعبير »لكل مواطن الحق في رعاية صحية«.. وهو حق مطلق ومجرد.. وانما استخدم تعبير التزامي محدد »تكفل الدولة الرعاية الصحية.. للمواطنين«. أما الاشكالية الأكبر فهي: من هم غير القادرين الذين ستقدم لهم الخدمات الصحية والتأمين الصحي.. بالمجان؟ إذا افترضت الدولة، كما حددهم وزير صحة سابق، أنهم الذين يعيشون علي معاش الضمان الاجتماعي، وهم عندئذ عشرون مليون مواطن.. فهل هؤلاء فقط هم غير القادرين؟.. وماذا عن الملايين من صغار التجار وأصحاب الحرف البسيطة.. هل سيعتبرون قادرين؟ ثم، هل يعد حالياً معظم أبناء الطبقة الوسطي من المهنيين: المحامين والمهندسين والصحفيين بل وغيرهم.. قادرون؟ هل يتحملون تكلفة عملية كبري أو أدوية مرض مزمن؟ إن ذلك بالضبط ما كان ينفذه النظام السابق.. ومن الواضح ان القانون الجديد للتأمين الصحي، سيكون بنفس فلسفة قانون حاتم الجبلي.. ولذلك حديث آخر عندما يصدر القانون.. أما التعليم الذي تدني مستواه، وصارت تكاليفه.. خاصة الدروس الخصوصية التي امتدت إلي جميع المراحل بما فيها الجامعية لا تطاق.. فإن ما نشر مؤخراً يوضح أنه أيضاً يتجه الي التمييز بين قادرين وغير قادرين.. مما يهدد بحرمان الفقراء من إكمال تعليمهم.. وإهدار مبدأ تكافؤ الفرص. فمنذ اسبوعين كان في جدول أعمال المجلس الأعلي للجامعات مادة دستورية تحدد أن التعليم الجامعي سيكون مجانياً فقط لغير القادرين والمتفوقين. مما يعني ان القادرين سيدفعون تكاليف تعليمهم.. والآخرين غير القادرين فلن يدفعوا. لقد نادي رفاعة الطهطاوي منذ 051 عاماً بأن التعليم كالخبز والماء حق طبيعي للجميع أغنياء وفقراء ذكوراً واناثا.. وتبعه طه حسين بمقولته الشهيرة منذ 26 عاماً التعليم كالماء والهواء حق لكل انسان، وبذلك جعلت حكومة الوفد التعليم مجانيا في كل المراحل قبل الجامعية، بعدها أكملت ثورة يوليو العدالة الاجتماعية، بجعل التعليم الجامعي مجانياً. لم تخفض مجانية التعليم العالي مستواه كما يدعي أنصار التمييز بين المواطنين بل كان التعليم في أعلي مستوياته منذ بداية المجانية حتي أواخر السبعينيات، خرج أجيالاً جيدة وخبراء وعلماء من أبناء العمال والفلاحين، تبوأوا أرفع المناصب.. وأرقي المراكز العلمية لأن القانون الحاكم للتعليم كان المساواة وتكافؤ الفرص.. وأكبر شهادة علي جودة التعليم المجاني هو هذه الكوكبة العظيمة من العلماء المصريين الذين برزوا في أكثر دول العالم تقدماً. فهل يعود بنا الحكم الحالي إلي الوراء عشرات السنين.. فيتعلم القادرون ويحرم أبناء الشعب.. إلا إذا أحضروا »شهادة فقر«؟!