باختصار، مبررات الحكم المتضمن في العنوان هي أن الإسلام السياسي قد فقد أعز ما كان يملك، أي براءته السياسية. فلم يعد بمقدور تيار الإسلام السياسي الادعاء بأن الشعب قد خبر تقريبا كل التيارات السياسية الأخري خلافهم ولم يجن من حكمهم إلا القهر والفقر، ولكن الإسلام السياسي باعتباره ملتزم بقويم الإسلام القائم علي العدل والإحسان والمساواة مؤهل للحكم الديمقراطي الصالح الذي يحقق مصالح العباد في العاجلة ويضمن لهم حسن المآل في الآجلة. ولكن الآن وقد حكموا فقد تبين للقاصي والداني أن حكمهم لم يختلف في قليل أو كثير عن حكم من كانوا ينتقدونهم وهم في المعارضة، باستثناء مسحة من التدين الشكلي للحكام من قبيل أداء الصلوات في مواقيتها في المساجد، والتضرع إلي الله لرفع البلاء. بل ظهروا أشد إستئثارا بالسلطة ولم يبدوا حرصا علي مصالح الناس، ولم تتصف تصرفاتهم بأحكام الدين الحنيف بل تنصلوا منها وقت المغنم السياسي، مثل تحليل الربا للاقتراض. ولا تحلت أخلاقهم بأوامر قويم الإسلام، فتبخرت الوعود الانتخابية بسرعة وحل محلها المراوغة والتسويف. ومن ثم فقد بقي الفساد والاستبداد اللذان قامت الثورة الشعبية العظيمة للخلاص منهما، إن لم يكنا استشرا واشتدا. فقط تغيرت الوجوه واكتست لحي وجلا بيب أحيانا.. وتلخّص أسلوبهم في التمسك بالسلطة في رشوة جميع القوي التي يظنون أن يمكنها منازعتهم علي السلطة بما في ذلك عمد نظام الحكم التسلطي الذي بقي علي حاله من الاستبداد والفساد، ما شكك في انقطاع صلتهم بالثورة الشعبية وقلة اهتمامهم بتحقيق غاياتها. وكان طبيعيا أن ينال حلفائهم في التيار نصيبا وافرا من المزايا، ثمثل في حال السلفية المتشددة والجهادية في قرارات رئاسية للإفراج الفوري عن محكوم عليهم بالمؤبد وحتي بالإعدام في جرائم إرهابية، واستقدام أمثالهم من المنافي في معاقل السلفية الجهادية في العالم، بينما أحيل الإفراج عن شباب الثورة الذين أخضعوا جورا لأحكام عسكرية إلي لجان بيروقراطية. وبناء عليه فقد انضم حكم جماعة الإخوان في مصر مبكرا إلي زمرة التجارب الفاشلة في الحكم باسم الإسلام السياسي المتشدد في المنطقة والعالم. ولم يكن غريبا والأمر كذلك أن تراجعت شعبية جماعة الإخوان وحزبها ورئيسها، حتي أعلنت ذلك بعض قيادات الجماعة ملقية اللوم علي الوزارة الضعيفة التي شكلها الرئيس مع علمهم بأن لا حول لها ولا قوة، وإنما يمسك بالسلطة الفعلية الرئيس الإخواني باعتباره رأس السلطة التنفيذية. غير أن سببا آخر قويا لإظلام مستقبل الإسلام السياسي هو الكوارث التي ينتظر أن تجلبها الفصائل السلفية المتشددة علي المجتمع ومن ثم علي خفوت شعبيتها والمستقبل السياسي لها وللتيار بأكمله. مع صعود حظوظ تيار الإسلام السياسي في الساحة السياسية بعد الثورات الشعبية علي الحكم التسلطي، خاصة في مصر وتونس، أدهش البعض مدي التأييد الشعبي الذي تكشف للفصيل السلفي المتشدد. بعد أن كان التركيز السياسي في السابق علي الفصائل الأقل تشددا، جماعة الإخوان في مصر وحزب النهضة في تونس، علي حين كان السلفيون إما عازفين عن السياسة تماما أو في أحيان متراجعين عن مواقف جهادية متشددة سابقة تحت ضغط وترغيب أجهوة الأمن الباطشة. وعلي حين شاركت الفصائل الأقل تشددا من تيار الإسلام السياسي في العملية السياسية وفي حركات الاحتجاج الشعبي وفق حساباتها السياسية النفعية المعتادة، غابت الفصائل السلفية المتشددة عن العمل السياسي كليا، ووصل بعضها إلي الافتاء بتحريم الخروج علي "ولي الأمر" ولو جار واستبد. ورصد كثيرون غياب تيار الإسلام السياسي بكامله عن المشاركة الفاعلة في الثورات الشعبية، خاصة في بداياتها إلا بشروط المصلحة النفعية، بينما كان غياب السلفيين المتشددين عن نشاطات الثورات شبه تام. ومن هنا جاء اندهاش البعض من الظهر الأقوي من المتوقع للفصائل السلفية المتشددة.. ولا ريب في أن الحضور القوي لتيار الإسلام السياسي بكامله في أول انتخابات نيابية بعد الثورة الشعبية يعود في الأساس إلي العمل الخيري الكثيف في الخدمة الاجتماعية لجماهير الشعب المطحونة التي أفقرها الحكم التسلطي، والذي مكنهم منه تمويل ضخم من مصادر داخلية وخارجية غير معلنة، وإلي اتساع الاقتناع الشعبي الواسع بصلاح المنتمين إليه وتقواهم. لكن هذه الحقيقة لا تنفي أنه في حالة مصر، حظي تيار الإسلام السياسي بدعم قوي من سلطة الحكم العسكري بعد الثورة تبين فيما بعد أنه كان شأنا مرتبا بين أطراف داخلية وحتي خارجية، أخذ أشكال الإفراج الفوري عن محكوم عليهم بأحكام وصلت للسجن المؤبد والإعدام، والسماح بعودة بعض من عتاة المتشددين من المنافي في باكستان وافغانستان وافساح الساحات الإعلامية لهم وتصديرهم كوجوه للمجتمع، بل وممثلين للسلطة في بعض الشئون الداخلية. ولا ريب في أن بعضا من ذلك كان احقاقا لحقوق طال هضمها ونتاجا طبيعيا لتحرير مواطنين من ظلم قامت الثورة الشعبية لدرئه. ولكن التقدير الآن أنه كان هناك أيضا تزيدا يثير الشبهات وقلة حيطة بشأن أثر هذه القرارات علي أمن البلاد ومستقبلها السياسي.