بغتة ضوء ليس له مرجعية عندي، مشطوف كالزجاج النقي، متمدد، معلق، لا يستند إلي شيء، لا ينفذ من خارج، ولا ينتهي إلي داخل، مستغلق البداية والنهاية، أحاول الإلمام. لست بمفردي، ثمة حضور آخر، لكن لا أعرف أين؟ ربما في الممر المؤدي إلي الحمام، غرفة المعيشة، حجرة المكتب التي أحرص علي إغلاقها عقب مفارقتي لها، ثمة وجود ما، ربما تمكن أحدهم من الدخول بطريقة ما ، أقوم موزعا بين اليقظة والمنام، الضوء ينير لذاته، ينتهي عند حدوده، لا يجعلني أبصر أي شيء، أتحسس الجدار، صعب الاهتداء إلي الباب، تتوالي أنفاسي في إثر بعضها، بينما يرتفع النبض في أذني، عرض بدأ منذ عدة أعوام ولا علاج له، أفتقد الوجهة، غير أنني أمسك المقبض، أديره، كأن الضوء يؤدي إليه، رأيته، ها هو يقف في الحمام، مواجه للمرآة، أوشك علي الانشطار بتأثير خروج الصرخة، من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟ خوف لا قبل لي به، مغاير لما أعرفه في كوابيسي وعثرات نومي، لتنوع ما عرفته خلال سنواتي المولية من أما كن اضطررت إلي النوم فيها، كهوف الصحراء الشرقية، رمال الجلف الكبير، مواسير منسية في الجبهة، في عربات معطلة، محطمة، في زنزانة الحبس الانفرادي، في القصر المهجور بالمنيا الذي كنت أتمدد فوق أرضية إحدي غرفه الخمس والستين، استراحة الري شبه المهجورة، منها رأيت إغراق إنسان موثق، مكمم، مثقل بالأحجار، لمحت من مكمني مقاومته الخرساء قبل الإلقاء به في ترعة الإبراهيمية. لتعدد ما عرفت، وما عانيته، وما مررت به، كنت علي يقين أنني تجاوزت ما يمكن اعتباره خوفا، خاصة ذلك الغامض، مجهول الصفة، صرخة تحولني إلي مصدر للخشية، للفزعة، لابد أنها أيقظت من يهجعون في مراقدهم من سكان المباني المجاورة وليس من أهل العمارة التي أقيم بآخر طوابقها، صرخة نابعة، قادمة من غور لا معرفة لي به، هل انطلقت أم أنها سرت مني إليّ، لم يسمعها غيري، البواب أمامي ، لم يبد علي ملامحه أي استفسار مكتوم، لو أنه أصغي لسأل أو بدا عليه الفضول، شككت فيما عندي، غير أن ما رأيته ماثل أمامي، الوضع الجانبي الذي بدا عليه، يقف علي شيء لم أتبينه رفعه في مواجهة الحوض، كان يتجه إلي الأمام، يداه تديران شيئا ما، هادئ جداً، لم يلتفت إليّ عند إطلاقي الصرخة، ربما جموده واستغراقه وانعدام رد الفعل نحوي هو ما أنجز خوفي، فقط وجوده، مجرد حضوره داخل البيت، هذا الأداء الغامض الذي يقوم به، منذ عامين أقيم بمفردي، الأبناء هناك للعمل، ورفيقة الدرب تحت العلاج من المرض الشرس، دائما أضع الاحتمال، أن يظهر غريب في البيت، إما لصا، وإما قادما من طرف أحد الذين أفضح فسادهم، أتصدي لهم بما أكتب، منذ سنوات، ظهر حارس أمام البيت، اتصل بي ضابط برتبة لواء، طلب مني ألا أنزعج، إنه إجراء وقائي، لم يفصح عن أسباب التهديد، في أحد الأماكن، عثروا علي تخطيط للبيت، والطرق المؤدية إليه، منذ ذلك الحين أتحسب، عندما بدأت إقامتي المفردة، استدعي المواقف المتخّيلة، رد الفعل إذا ظهر أحدهم داخل البيت، كيف سأتصرف؟ ما سيبدر عني؟، أما أن يظهر هكذا، كأنه لا حضور له، لا حواس، لا نية عنده للتوجه نحوي، هذا ما خيل إليّ، غير أن مثوله هكذا ما روعني، ما استوفز يقظتي في الليلة التالية، مستوثقا وجوده، ظهوره المباغت، جاهلا لحظة تقدمه نحوي.. اقتراب توطد عندي يقين أنني لست بمفردي، ثمة من يقيم معي في الفترة الأخيرة، لا استطيع تحديدها، الأيام، الأسابيع، الشهور المنتهية، بل لا أقدر علي تعيين فترة معينة بدأ فيها ذلك اليقين أو الوعي بحضور من أجهله معي، لا يظهر في دائرة بصري، ولا مرجعية له في موروث معارفي. منذ توالي الأسباب وانفرادي وترتيب أوضاعي كثرت المحاذير وتعددت التوقعات، باب العمارة هش الإغلاق، يمكن فتحه بسهولة، بل إنني كثيراً ما وجدته موارباً عند رجوعي ليلاً، نبهت البواب المقيم ولكن يقع نهاية الجراج، يصبح معزولا بمجرد إغلاقه باب غرفته، إنه صعيدي متقن لمهمته وعنده موروث ويبدي مهارات، يمكنه إصلاح صنبور يسرسب، أو مفتاح كهرباء تعطل، أو استدعاء فني لإصلاح طبق لاقط تعطل، لا يكف عن الحركة، لا يتجاوز حوارنا كلمات معدودات، الطقس، الأحوال، الاستفسار عن البريد، يسألني عن زوجتي، يدعو لها، يؤكد انه طلب من شيخ الجامع بعد صلاة الجمعة الدعاء فدعا لها بالعودة سالمة بإذن الله، شهد لحظات دقيقة، حمل حقائبها عند السفر، أيضا أمتعة الأبناء، عندما جاء صوت شقيقي ينعي أخانا الأصغر علي صحبني، أبي تركي بمفردي، حاشني عن نزول القبر، شارك التربي تمديده وتجهيزه، أوصيه دائما ألا يغلق هاتفه المحمول خشية أزمة ليلية مفاجئة ربما تحتاج إلي وجود شخص ما، لا أعرف القيادة، عربة زوجتي في الجراج، كل أسبوع يجئ البواب، يتناول المفتاح، يقوم بتسخينها بضع دقائق، يدور بها حول العمارة، أوصيه ألا يذهب بعيداً، الأمان مفتقد، والعربات مستهدفة علي الطرق السريعة خاصة، أثناء وقوفه إلي جواري مترقباً إحدي عربات الأجرة، يتطلع إليَّ صامتاً، قال مرة إنه يدون الأرقام وتلك الحروف التي لا يعرف معناها، أومئ إليه شاكراً، لديّ يقين أنه سيكون أحد الواقفين عليّ، وربما أولهم، لم أطلعه علي عدم إحكامي إغلاق الباب الرئيسي، أو تمتين ايصاده بالمغاليق تيسيراً لمهمته، عندما يضغط الجرس مرات فلا يسمع إجابة، عندئذ سيتصل بشقيقي الذي يسكن الضاحية الشمالية، لم تعد مدينة نصر الآن بعيدة، مازالت مقاييس الستينات تحكم تصوراتي وتعاملي مع المدينة، لا أعرف من سيتواجد حولي، جميع ما عرفته وما مررت به، أن أبعد من نتصور وجودهم هم الذين يجيئون ويقدمون المساعدة، منذ أن بدأ ذلك تراجع حضور البواب وبدأ انشغالي بمن لا أعرف، من أجهل، حضور مغاير لما عرفته، لما خبرته، أتقن أصوات البيت مع اختلاف الفصول، الهسهسات، الحركة المفاجئة عندما تدفع الريح البحرية مصراعي نافذة، سكون الماء وتدافعه المفاجئ داخل المواسير، حتي الأصوات المنبعثة من شقق الجيران، كذا الروائح، لو طرأ مغاير يبدأ استنفاري علي الفور، أتوقع المفاجأة، أحاول استدعاء اللحظة الأولي التي أفاجأ فيها بغريب تمكن من اقتحام بيتي لإلحاق الأذي، إمكانية ذلك قائمة، تفحصت المسارب والمنافذ المؤدية، خاصة مع مهارات المتخصصين في تسلق المواسير، تبدو المدينة كلها مستباحة مع ضعف الشرطة وتواريها بعد الثورة، ما بين هجوم مباغت بهدف السرقة أو التصفية وصمت الأنفاس توزعت خشيتي خاصة مع تزايد نبض القلب في أذني اليسري، من خلاله أتبع، أرصد سائر التقلبات، البطء والإسراع، إلي متي؟ هل سأعي لحظة الانتقال؟ أم أنني سأعبرها غافياً؟ هل ستكون منفردة أو تشبه أخري مررت بها من قبل؟. اسئلة محيرة وإجابات مستحيلة، غير أنني لاحظت تواريها مع بدء وعيي بوجود مغاير علي مقربة، لم أعرف كينونته بالضبط، موجود هنا، أمامي ويمكن أن يكون ورائي، غير مرتبط بجهة، لا يتجه إليه بصري المحدود، كذا سمعي، ما صفاته؟، آدمية أم مغايرة؟ لماذا أتخيله ماشياً، جالساً، قاعداً، يحملق إليّ أحيانا ويصغي؟ هل استعير الصفات الإنسية لتجسيد ما أجهله؟. ربما، المؤكد أنه مستجد عليّ، مغاير عندي لكل ما عرفت، متجاوز لسائر المقاييس، يتبعني، يتقدمني وأحياناً يتركز وجوده في نقطة معلقة من الفراغ تجاهي، المؤكد أنه محصور داخل البيت، حتي الآن لم أستوثق صحبته لي عند خروجي وإن لمحت حضوره في مكتبي ثم فارقني كأنه أطل عليّ، ربما يشغلني عنه الانهماك في مقابلة الآخرين، الرد علي الهاتف الثابت والمتحرك، مراجعة الحساب الآلي، غير أنني ترددت إزاء ما عندي ليلة تلبيتي دعوة عشاء. كنت بين جمع، بعضهم تربطني به صلة، آخرون التقيهم لأول مرة، كنت مقبلا، مستلهما التأثير البادي لطعام جيد عندما دوهمت به فجأة، رغم أنني لم أعرفه مباشرة، لم أره ولكن حضوره لا أخطئه أبدا، بمجرد لواحه أصمت، أكف، تتقارب ملامحي، دائما عندي توقع ما أنه سينجلي، سيبدو، سيسفر لي عن وجوده، لم يستمر إدراكي له إلا بضع ثوان أثقل فيها عليّ، بعد تأكدي من تكرار تلك الوفادة المباغتة أيقنت أنه يؤكد تقصيه أحوالي وإشرافه عليّ أيا كان الحال، بغض النظر عن المكان أو الزمان، ما من تقيد له بذلك، في البيت يتبعني، يتقصاني، ألج الحمام، لا يواتيني أي خجل عند اكتمال عريي، أغمض عيني خشية تسرب الصابون غير مبال باقترابه، تداخله مع قطرات الماء، استمر محاذراً الانزلاق والإصابة بكسر يجبرني علي الرقاد، أوعر ما أخشاه، أوقن أن ما عندي ينتقل إليه أو العكس، لا أدري ما دمت لا أعرف كُنهه، ربما يكتمل اقتناعي أنه الأصل وليس سعيي إلا الصدي، عدت إلي المائدة، جلوسي في نفس المكان الذي اعتدته زمن اكتمالنا، وقت محدد يجمعنا، وجبة علي الأقل، يرتب كل منا ظروفه ليلحق به، منذ انفرادي تبدلت أماكني وتغيرت مواقيتي، لم يعد الطعام فرصة، إنما ضرورة، منذ عامين وعدة شهور أتناوله كيفما أتفق، في أي موضع، بالمطبخ واقفا، جالساً أمام التليفزيون متتبعا الأخبار، لا أتناول الطعام إنما تلبية لأداء آخر، لا يتوهج الحال إلا في صحبة، جماعة، أما الانفراد فوحشة واكتمال وحدانية، يقع الاندماج في النفس، منذ رصدي حضوره، منذ الإحاطة به أمضي الوقت متوجسا أترقب، خاصة عند جلوسي إلي المائدة أو تفقدي الكتب المتراصة ونفض الغبار عنها صباح الجمعة، يقوي عليّ أمره حتي لأدركه من جميع الجهات كأنه يحوش حركتي، يمسك بشكل ما يصدر عني ، فجأة ينصرف امره عند خروجي من الباب يتداخل معي فلا اعرف ان كان مصاحبا لي او انه يمضي ليشغل محلي، اما بدء الرقاد الليلي فيقربه حتي ليدنو الي اقصي حد عرفته يصير أرهف من الانفاس ، يتداخل مع الشهيق والزفير حتي لاكف متوقعا ما لا أدري عند تطلعي الي المرآة أثق من وجوده رغم انني لا اراه رغم شموله لي احيانا الا انني متأكد من فردانيته واحد لا غير ليس اثنين او ثلاثة، ربما ذكرا او انثي او يجمع النوعين فلم اكن قادرا علي نسبته الي ميل ليس بوسعي الا التخمين والكف عن اي حركة خاصة عند بدء سعيي الي الاغفاء اصغي الي تكاتف اقترابه وتزايد دنوه. نبض يبدو ان ذلك من الاعراض الجانبية لآخر دواء قرره الطبيب المعالج لتحسين اداء عضلة القلب وتوسيع الشرايين، لا يمكنني تحديد اللحظة التي بدأ فيها، ربما استيقظت عليه ، ربما بدأ خافتا وسري حتي اكتمل عندما انتبهت ظننته عرضا سيمضي بعد وقت ما كما نردد سيأخذ وقته ويمضي لكن مع استمراره سبعة ايام متصلة عدت الي الطبيب المعالج لقلبي منذ سنوات ، قلت ان قلبي انتقل الي اذني اليسري بالتحديد النبض هنا تطلع حائرا رغم طول خبرته معدود من الخلاصة إلا انه بدا كأنه يصغي إلي وصف حالة نادرة ربما لم يمر به مثل ذلك ملامحه جهمة جادة لا يجمل الاعراض او التشخيص محدد واضح يخشاه البعض ممن يركنون الي اطباء يلفظون المطمئن من العبارات غزير العلم متابع للمستجدات في مراكز الابحاث والعلاج في العالم رغم صرامته الا انه ابتسم مداعبا: ربما كان توهما.. الغريب ان طبيبا اخر تربطني به صلة متخصص في تخدير القلب، يعيش في الخارج منذ أربعة وأربعين عاما، بيني وبينه ود جميل، معروف لأهلي وصحبي، عندما جاء إلي القاهرة في اجازة قابلته كما اعتدت، رويت له ما استجد عليّ، ابتسم مائلا بجسده البدين إلي الأمام.. »أنت وحيد طول الوقت.. لماذا لا تراجع طبيباً نفسيا..« لزم الصمت، ألم يمر عليهما حالة شبيهة وهما المتخصصان في أحوال القلب، هل يمكن توهم هذا النبض الذي لا يتوقف خلال صحوي ونومي، يتبع حركتي، منه أصغي مباشرة إلي قلبي، لو أنني منفعل، متهدج، يسرع راكضا، كذا عند صعود السلم، أو بذل أي مجهود، لا يهدأ إلا ليلاً، ملازم، مقيم، صفة من صفاتي، لا يمكن أن يكون هذا بتأثير التوهم، أو أسباب نفسية أخري، يمكنني الإشارة إليه، وضع اليد عليه، أنام به ومنه يبدأ استيقاظي. في ليال يعوقني عن الدخول في النوم، أتقلب، يصحبني، صار من صفاتي، أحيانا أضيق به، أتمني الكف، أنتبه إلي أنه إشارة علي استمرار قلبي، الكف يعني ولوج الصمت الأبدي، عدم العدم، إذن فلأحاول تجاهله، الانشغال بأمر ما، لكن الخفق ينبهني إلي حضوره، إلي تتابعه، عندئذ يُستأنف قليلا، لم أطلع أحدا إلا ذوي الاختصاص، زوجة صاحب لي اهتمت وبادرت، كنت في ضيافتها، إنها طبيبة، صحيح أستاذة تحاليل طبية، أبدت اهتماما، غابت قليلا وعادت لتقول إنها نظرت في الإنترنت، العرض حقيقي، أوصافه موجودة، لكن أسبابه عديدة، ربما تأثر العصب المجاور للشريان، ربما تفاعل الأدوية أزال الطبقة العازلة، نصحتني أن أذهب إلي طبيب متخصص في الأذن، إنه قديم، عارف، مجرب، ينتمي إلي ذلك الجيل القديم من الأطباء الذين كانوا يلمسون المريض فيشخصون الداء علي الفور، زودتني بهاتفه وعنوانه، اتصلت لتحديد موعد، لماذا أعجب من الندرة؟، لم أقرأ عن حال مشابه، لا في مقال أو رواية أو مذكرات، ربما الأقرب قصة النمرود، ملك قديم، عسوف، جبار، ارتكب مظالم شتي، عاث في الأرض فساداً، سلط الله عليه بعوضة، قرصته في رأسه، عندئذ بدأ صوت يشبه قرع الطبول في دماغه، حرمه النوم والراحة، حتي أنه لم يكن يهدأ إلا إذا ضُرب بالنعال. أين أنا من النمرود؟، لم أرتكب مظالم، لم أضايق أحدا، لا أظن أنني ألحقت الأذي بأحد، لم تكن انفعالاتي إلا ردات فعل، غير أن الأمر لم يستمر علي حاله، ثمة صوت رئيسي يتبعه أصداء رهيفة، توابع تبدو قصية، صرت أحاول تبينها، تفهمها، توصيفها، هذا كله نابع مني، ينم عن أمور، يشير إلي مكامن، غير أنني جاهل بالأسباب والمسار المؤدي، إلي أين؟ لا أعرف. بعد أن تغير موضع قلبي من صدري إلي رأسي ! أثناء الفحص الذي سبق جراحة القلب الثانية، خلال المتابعة التي تلتها، وصفت للطبيب المعالج الأمر، كان عندي أمل أن ينتهي العرض بعد إفاقتي، الليلة الأولي صعبة، أعرف أنها الأخطر، الألم طري، النبض أقوي في صدري وأيضا في أذني، أصغيت عبر الصوت الملازم الذي تزايد قوة بعد تغيير الصمامين وتركيب شرايين ثلاثة، تزايد تدفق الدماء، غير أنني رصدت تقلب قلبي أثناء استرداد وضعه بعد أن هتك مكمنه، وتناولته أيد غريبة، شق وخرج إلي خلاء الوجود، في الوقت الذي كان من المفروض أن يبقي مستترا إلي الأبد، أن تتفرق ذراته وتبدأ سفرها في الوجود بدون أن تقع عين أو يمسه بشر، هذا هو الوضع الطبيعي، لكنها الظروف، الأقدار. مما أثار عجبي ظهور نفس التعبير تقريباً علي وجه الطبيب الأمريكي ذائع الصيت، تذكرت تطلع طبيبي عندما أفضيت إليه أول مرة، لم يبد الأمريكي سخرية، لكن تعبيرات وجهه لم ترحني، كأنه يشك فيما ذكرته، أويسمع أمراً غير مألوف لأول مرة، قال إنه سوف يري، سوف يري. لكنه خلال مرات لقائنا الثانية لم يشر ولم يحد إلي الموضوع، كأني لم أفض إليه أمراً يزعجني. لم يتبدل الأمر بعد الجراحة، ازداد الصوت قوة وارتفاعاً، صحيح أنني لاحظت تغيراً ما لم استطع تحديده، لكن الإيقاع، تزايد الوتيرة، كان من السهل رصدهما، غير أن طبيب الأذن القديم في الضاحية القريبة أصغي جيدا وراح يدون ما أقول، اثار ذلك ارتياحي، بعد أن فرغت اتجه إليّ مباشرة: قال، حالة نادرة.. نعم، بل نادرة جدا، علاج لا، لا يوجد، وأي طبيب يزعم غير ذلك فمضيعة للوقت، أمامنا أمران، إما تركيب سماعة الكترونية تصدر ترددات مضادة، عندئذ يقع التعادل ويتواري الصوت، لا يختفي، يظل لكنه غير مسموع. صمت لحظة سألته بعدها، والحل الثاني؟، قال: التعايش مع الوضع، ان اعتاده، ان أجد صيغة ما لبحث الأمر مع النفس. عندما خرجت من عنده، كنت افكر في السماعة، غير انني لم استجب الي قناعتي تلك تماما، كنت حائرا، مع توالي النبض بدا ما يشبه حوارا ما، أصغي اليه، لكن الطاريء هو اكتساب تلك الدقات المتوالية معني ما، اشارت غامضة لا استوعبها في مضمونها لكنني ادرك اشاراتها، ثمة تآلف بدأ، بل ان خشية ما من الكف، سريان الصمت، اذا ما قدر لي الوعي بها فليس هذا الا بلوغ الامد، احيانا افهم توالي النبض بهذا الاصرار انه اشارات علي ان اعيها واستوعبها وان اتوقع ما يليها.