جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تتصدر تصنيف التايمز العالمى للجامعات الناشئة لعام 2024 وتحقق نجاحات محلية وإقليمية ودولية    سعر الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024 مقابل الجنيه المصري ختام التعاملات البنكية    «خطة النواب» توافق على اعتماد إضافي للموازنة الحالية بقيمة 320 مليار جنيه    هيئة الاستثمار تتيح استخراج شهادة عدم الالتباس وحجز الاسم التجاري إلكترونياً    عقب تعرض مروحيته لحادث.. التليفزيون الإيراني: مصير رئيس البلاد مجهول (تفاصيل)    الدفاع الروسية: مقتل نحو 1900 عسكري أوكراني خلال الساعات ال24 الماضية    رمضان صبحي يقود تشكيل بيراميدز في مواجهة الإسماعيلي بالدوري    توجيهات البنك المركزي السعودي بشأن مواعيد عمل البنوك خلال عيد الأضحى 2024    اليوم في ختامي نوادي المسرح.. عرض «سوء تفاهم» و«هاللو فوبيا» بقصر ثقافة روض الفرج    الأربعاء.. عرض فيلمي «فن القلة» و«فن العرايس» بمركز الثقافة السينمائية    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    عاجل.. براءة متهم من قتل سيد وزة ب "أحداث عنف عابدين"    تسلق السور.. حبس عاطل شرع في سرقة جهاز تكييف من مستشفى في الجيزة    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    إهداء درع معلومات الوزراء إلى رئيس جامعة القاهرة    عاطف أبو سيف: إسرائيل تعمدت نفينا خارج التاريخ    مصطفى قمر يتألق بأغانيه في حفل زفاف نجلة سامح يسري.. صور    «يا ترى إيه الأغنية القادمة».. محمد رمضان يشوق جمهوره لأغنيته الجديدة    طلاب مدرسة التربية الفكرية بالشرقية في زيارة لمتحف تل بسطا    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    الجبالى مازحا: "الأغلبية سقفت لنفسها كما فعلت المعارض وهذا توازن"    نصائح وزارة الصحة لمواجهة موجة الطقس الحار    وزير الصحة: تقديم القطاع الخاص للخدمات الصحية لا يحمل المواطن أعباء جديدة    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    "علشان متبقاش بطيخة قرعة".. عوض تاج الدين يكشف أهمية الفحوصات النفسية قبل الزواج    خالد عباس: إنشاء وإدارة مرافق العاصمة الإدارية عبر شراكات واستثمارات عالمية    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    وزارة الإسكان تخطط لإنشاء شركة بالشراكة مع القطاع الخاص لتنشيط الإيجارات    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    موعد انعقاد لجنة قيد الصحفيين تحت التمرين    رئيس الأغلبية البرلمانية يعلن موافقته على قانون المنشآت الصحية    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بعثة الأهلي تغادر تونس في رحلة العودة للقاهرة بعد التعادل مع الترجي    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
موسيقي الصمت
نشر في الأخبار يوم 01 - 05 - 2012


جمال الغيطانى
»الكليات بينة، وما نحاوله هو الوصول إلي التفاصيل، الأنغام تسبقنا، وما نسمعه مجرد كشف..«
اختفي ذلك منذ زمن طويل، تغير المكان كله، كذلك واجهة المتجر، حتي ليصعب عليّ الآن تحديد مكانه بالضبط عندما أعود إلي شارع الموسكي، أعني الجزء الواقع بين شارع الخليج بورسعيد فيما بعد وميدان العتبة. ذلك أن الشارع يصعد باتجاه الشرق حتي ميدان الحسين.
أمشي طفلا بصحبة الوالد، أمشي صبيا برفقة حسن زميل الدراسة، أمشي فتي بمفردي، إذا كنت قادما من الحسين يكون المتجر إلي يساري، إذا كنت عائدا من ميدان العتبة إلي البيت في قصر الشوق يصير إلي يميني، معرض اسطوانات بيضافون، يتقدم الواجهة تمثال من خشب ملون لمحمد عبدالوهاب مرتديا حلة بيضاء وطربوشا، يبتسم في اتجاه ما، يضع يده في جيبه، إلي جواره نجاة علي، تماما كما ظهرا في إحدي لقطات فيلم دموع الحب، يمت المشهد إلي زمن مضي، يبدو متخلفا عن أيام لم تعد قائمة، محمد عبدالوهاب الذي يطالعني يمت إلي ثلاثينيات القرن الماضي، تغيرت ملامحه فيما تلي ذلك، كذلك صوته، تندلع هذه العبارة:
أسطوانات بيضافون.
ثوان من الصمت.
محمد أفندي عبدالوهاب.
تبدأ المقدمة الموسيقية تمهيدا لدخول الصوت الذي صار من علامات عمري، تماما كلافتات المحطات التي تحمل أسمائها، أو علامات الطريق، أو الاشارات الدالة علي ما تبقي من مسافة، وما انقضي منها.
حتي خربشة الأسطوانة العتيقة وصرير الأبوة عبر المنحنيات والملفات والثغرات الدقيقة غير المرئية، الصوت المنبعث عند الوصلات،
الله.. الله ياسي محمد أفندي عبدالوهاب.
أو يذكر اسم عازف الكمان، أو القانون، أو العود، صوت بقي كجزء من النص رغم أنه مهمل، متروك، لا يتوقف أمامه أحد، لا يتأمله أحد، لا يتفحصه أحد، لم تحتفظ صورة بملامحه، ولم يصل إلينا اسم أحدهم، وإذا ذكر أمثاله فبالوصف الذي يتضمن نقيصة ما، مرتبة منخفضة، أقل، انه المطيباتي، لفظ لا يعبر سمعي بسرعة، إنما أطوف به، أقلبه، أحار في ايقاعه، فهو مشتق من الطيب والطيبة، أي الدقة والتدقيق والخصال الحميدة، كلمة »طيب« في المصرية الدارجة تعني الكثير، ومنها يقول القوم »دا بيطيب خاطره« أو »يجبر خاطره«، أي يثني عليه، يمدحه، يشيد بخلاصه، بعمل أتاه، المفروض أن يتم هذا تلقائيا، بدافع داخلي، لكن عندما يجئ ذلك مقابل أجر تنقص القيمة وتبتذل الدلالة، يوصف الفاعل بالمطيباتي، لا أعرف هل هو نفس الشخص الذي يقوم أم انه مختلف، لكن كليهما جزء مما أسمعه، يضعان النص في إطار، يحتفظان بسمات الزمن الذي أبدع فيه اللحن، وجري الغناء.
بعد الغروب تغلق المتاجر أبوابها، يختفي المارة وينتهي الزحام، لا تبقي إلا أكياس فارغة، وسلال، واجهات صامتة، الأضواء تعلو المداخل، في العتمة ينشط اللصوص، الشارع غزير التجارة، أعود من ميدان العتبة متمهلا، أتمهل عند اقترابي من معرض بيضافون، أتوقف أمام التمثالين المنحوتين من الخشب، نفس الوضع، اتجاه النظرة، الأسطوانات المعروضة، فوتوغراف قديم ربما عينة لما كان الحال عليه، ليس للبيع، أجهزة استماع أخري حول التمثالين، أطيل التأمل، أستعيد زمن طفولتي، كنت أتعلق بهما عبر بصري، أبطئ خطوي، متخيلا الحوار الذي يجري بينهما بعد انصراف الخلق كلهم من الطريق، غير ان الطريق لم يخل قط، باستمرار ثمة مارة، حتي في الليل وإن تباعدت بينهم المسافات، طالت وقفتهما، وتطلعهما إلي نفس الاتجاه، منهما ينبعث الغناء، الموسيقي، لم أسمع محمد عبدالوهاب إلا وتلوح الواجهة بشكل ما، إما عابرا أو تستمر لفترة، في نهاية الستينيات، ربما في منتصفها تغير مضمون المعرض، صار إلي الأقمشة ولوازم العرايس، أغلقت شركة بيضافون، اختفت، لسبب ما احتفظ صاحب المتجر الجديد بالتمثالين، لا أعرف لماذا؟ بدا منظرهما غريبا وهما يقفان وسط أثواب القماش من حرير وقطن، عند مروري بهما أتطلع بسرعة متمنيا ألا أراهما، ثمة خطأ ما، كان لابد أن يختفيا مع الأسطوانات، والفوتوغراف القديم، بقي رسمه علي شركة أجنبية، وعندما ظهرت الأسطوانات الممغنطة أقتنيت عددا منها، تأملت الكلب الناظر إلي داخل فوهة الفوتوغراف القديم، استمرت الشركة التي لا أعرف مقرها أو منشأها، أما أسطوانات بيضافون فأصبحت من التحف، ومع تقدم تقنيات الاستماع صارت عبئا في حالات كثيرة، غير انني لم أتخلص مما جمعته رغم أنه يشغل حيزا غير هين من مكتبتي، لكل مجموعة تاريخ في تطور صلتي بالموسيقي وتداخلي مع أجناسها، غير ان أنفس ما فيها ثلاث أسطوانات، اثنتان لمحمد عبدالوهاب والثالثة للمطربة نجاة علي، التمثال يكمن فيهم، تماما مثل صوت محمد عبدالوهاب وموسيقاه، لم يستمر بقاء التمثالين طويلا، أزيلا، لا أعرف السبب، رتبت أمورا افتراضية، ربما آثر المالك الجديد الاحتفاظ بهما، غير أن أبناءه بدلوا الحال بضغط منهم، ربما لرحيله، لماذا لم أدخل وأستفسر منهم أو منه؟، ربما لأن اختفاء التمثالين يعني انقضاء حقبة ونهاية حالة، زوالها من الواقع.
لم أقدم وكان ذلك ميسورا لي، فقط.. السؤال، أحيانا أفضل إبقاء موضوع اهتمامي في نطاق المجهول، يثير عندي الاحتمال تداعيات شتي، لا تحدني معلومة مؤكدة أو افتراضية، لو عرفت الجواب سينتهي كل شيء، لن يظل حافزا، ولن أصير إلي تطلع، ربما يفسر ذلك بقاءها عندي وتأثيرها الخبئ، فجأة يبرزان أمامي أثناء قطعي المسافات، في الفيافي، عند التخوم، حيث لا أتوقع في الجو أو عمق البحر، أفاجأ بهما، بطلتهما، غير محددين بواجهة المتجر، يتطلعان من عندي، يقفان في مجالي، يتحركان بمحاذاتي، مجرد لواحهما، يتبدل حالي لظهورهما، ربما يبعثان أشجانا قديمة، تركا عندي آثارا وعلامات لم يحدثها بعض ممن عاشرتهم زمنا، وأناث ولجتهن وبلغت معهن مراسي الذروة، كاد مصيري يتحد بمصائرهن، بعضهن غاب عني تماما، حتي أنني أجتهد في استعادة أسماء عزيزة، قريبة فأعجز، غياب الاسم يعني المحو الأتم، فليراجع من يرغب دفتري المعنون بالدن، فقد فصلت فيه الأمر وكدت أبلغ الدراية، وأفهم الغاية، لكنني لا أعرف حتي الآن، هل بلغت أم قصرت؟
أصغي إلي الأسطوانات، إلي التسجيلات العتيقة، ما يشجعني ردود فعل المستمعين إذا كان الغناء في حفلة ما، أو هتاف المطيباتي الذي يبزغ فجأة، »الله الله ياسي عبده يا صالح«..
المطرب معروف، لكن من سيلم باسم هذا العازف أو ذاك؟، يرجفني الاستثناء وليس الأصل، يزلزلني الهامش وليس المتن، غريب أمري!
علي أي حال صارت طلة عبدالوهاب ونظرة نجاة علي من اللوامح النائية جدا، لم أعد حتي أمشي في الموسكي، إذ تبدل حاله بدءا من السبعينيات وبعد أن استمر زمنا كمصدر للأناقة صار مركزا للرثاثة والفوضي، تزاحم الباعة، تدهور المعروض، صار المشي فيه عبئا بعد أن كان متعتي عندما أقصد سور الأزبكية أو وسط البلد افرنجي النظام، صرت أسلك الجسر العلوي عند اتجاهي إلي ميدان الحسين، عند دخولي خان الخليلي أتوقف متطلعا إلي شارع جوهر القائد، ينحدر باتجاه العتبة، تتجاور رؤوس المارة، كثافة منفرة، لو أنهما بقيا في الواجهة لاتسخا، لاختنقا، لتكررت ملامح محمد عبدالوهاب ونجاة علي.
لم يعد لهما موضع الآن مع تدهور الحال وغلبة الرثاثة، كم ذاكرة لاتزال تتوقف عندهما أو تستدعيهما من العدم؟ من بوسعه معرفة ذلك؟، كانا جزءا من وقت زوي بكل ما فيه من أحوال ومشاهد، من مثولهما أتلمس أزمنتي البائدة، من حضورهما الفاني أتلقي رجفات الحنين إلي ما ولي، إلي ما انطوي إلي الأبد، وليس أغرب من وضعي هذا إلا حالي مع ذلك الصندوق العجيب!
مذياع
أحاول أن ألزم ما أقره مجمع اللغة، وقواميس العربية الحديثة، غير أنني أجد صعوبة فأحتج بما سمعته عن أحمد لطفي السيد باشا من الشيخ أمين الخولي الذي التقيت به من حسن حظي مبكرا قال رحمه الله ان لطفي باشا رئيس المجمع كان إذا وقع خلاف أمامه حول لفظ ما يتساءل: الناس بتقول ايه بره؟ فيقولون له: كذا، يجيب عندئذ، إذن اللفظ فصيح.
من هنا سأقول الراديو وليس المذياع، لم أسمع إنسانا واحدا ممن عرفتهم يستخدم الكلمة، الراديو أول ما طرق سمعي ومازال، في بيتنا المكون من خمسة طوابق، عائلتان فقط لديهما راديو، أحمد عمرو في الطابق الأول، أبو ثريا وعم ثناء من طهطا، زرته مع أبي هناك وأمضينا عنده ليلة، تبرز أمامي الآن واجهة مرتفعة لبيت قديم، عمودان يحملان شرفة، أكاد أري لون البحر لكن ماعدا ذلك لا أقدر علي تبينه، واجهة فقط، هذا كل ما تبقي، نزلت طهطا مرات بمفردي فيما تلي ذلك من مسار، وبالطبع كان من صميم العبث وصولي إلي البيت، أحمد عمرو ميسور الحال، يرتدي جلبابا بلديا من صوف، وطربوشا أحمر، لأنه في الطابق الأول صارت شقته ملجأ لسكان العمارة، خلال حرب فلسطين عام ثمانية وأربعين، الصور الأولي، الأقدم، المتبقية في ذاكرتي، نزولنا ليلا من السطح حيث نقيم إلي الطابق الأول، خصص الرجل حجرة الاستقبال للرجال، وللنساء الصالة، النوافذ مطلية باللون الأزرق بناء علي تعليمات الدفاع المدني، الضوء الوحيد الذي مازلت أذكر مصدره وانعكاسه علي الملامح، لمبة صغيرة تضيء لوحة الراديو الموضح عليها أطوال الموجات وأسماء العواصم التي تطلق البث، لأن العتمة كاملة يبدو الضوء في ذاكرتي ساطعا، لفترة أثار ذلك الصندوق البني بمفاتيحه الأربعة البارزة كحلمات النهود خيالي، ظننت ان بداخله يقبع من يتحدث، لذلك كنت أطيل التحديق إليه، وأجتهد في الاقتراب لعلي أفض السر.
المذيع هادئ، عميق الصوت، رزين الإلقاء، لسبب ما أطلق عليه والدي وصف »الأخنف«، لم ألحظ ذلك، بعد انتهائه من النشرة يخفض الحاج عمر الصوت بإدارة مفتاح المذياع، يبدأ حديثهم، أذكر كلمة »مصفحة« وجملة »مدفع يقسمها إلي نصفين«، من أسرة الباشجاويش الهجرسي تطوع اثنان، أحمد الكبير وشعراوي الأصغر، كلاهما منتظمان في كتائب الإخوان المسلمين، يدعو الجميع لهما بالعودة سالمين، منتصرين علي اليهود، لم أسمع كلمة صهيونية إلا بعد ثورة يوليو، أصغي إلي تفاصيل تثير حزني علي ما يجري للفلسطينيين من بقر لبطون الحوامل، إزالة بيوت من أساسها، تشتيت شمل أسر، محطة الإذاعة البريطانية الناطقة باللغة العربية مصدر خارجي وحيد لمعرفة الأخبار، موثوق بها حتي وقت تدويني هذا، راديو أحمد عمرو أول ما عرفت، كنت راغبا في النفاذ إلي داخله لأري الرجل ضئيل الحجم قابعا يقرأ، يتلو الأخبار، غير ان راديو أم كريمة حضر عندي أكثر رغم أنني لم أجلس إلي جواره مباشرة، لم أحدق إليه، لم أره إلا مرات قليلة عند دخولي شقتها، ونادرا ما ترددت عليها لتذبذب علاقتنا بها لما يشاع عنها، ما يتعلق بعملها راقصة خلال الحرب العالمية الثانية، كانت تتعري أمام الجنود الإنجليز، جمعت مبلغا قدره البعض بألف جنيه، وأكد آخرون انه لا يزيد علي أربعمائة جنيه، سلمته لتاجر خيش في الخرنفش يستثمره في السوق ويأتي إليها بالعائد، لهذا يتردد عليها بثقة سواء كان زوجها عبده موجودا أو خارج البيت، تصرفاتها مفتوحة مثل الأفرنج، كلام كثير يتردد عن علاقاتها، عن حفلات عيد الميلاد التي تقيمها أكثر من مرة خلال السنة الواحدة، خلالها يرتفع صوت الموسيقي والضحكات وأكد البعض أن بعضهم يأتي بالخمر معه، وزاد آخرون مؤكدين أنها تشرب، سمعت أبي يقول بحزم لأمي انه لا يصدق إلا ما يراه، أما أخذ الناس بالشبهات أو بسماع ما يقوله الآخرون عنهم فهذا مما لايصح ولا يجوز، لا يرضاه شرع أو دين، أراها الآن واقفة في الشرفة، أو تطلع السلم، وأتوقف عند الزلزلة، الكل نزلوا فزعين إلي الحارة، كانت في الأسابيع الأخيرة من حملها، تجلس عند مدخل البيت، تفترش الأرض، احداهن تقدم لها كوب ماء، إذ يرد اسمها عندي استدعي جلستها تلك، كانت مرهوبة الجانب لقدرتها علي النطق بسيل مقذع من السباب حتي ان من يحترفن الردح ويؤجرن في الخناقات يرهبنها ويتحاشين الدخول في مواجهة معها، رغم ذلك وصفها البعض بالجدعنة والشهامة، عندما جاء أمي المخاض، طلعت إليها بعد أن لمحت أم حليمة الداية، بعد تمام وفادة أختي نوال، لم تغادر إلا بعد اطمئنانها، في الأيام التالية تطلع يوميا مرتين أو ثلاث، كثيرا ما رددت أمي: لن أنسي منها أبدا ما عملته معي.
عندي عنها الكثير، لكن ما يعنيني هنا مذياعها، كان في البيت اثنان، الأول عند أحمد عمرو في الطابق الأول، لكنني لم أسمعه قط، ربما لبعده، فقط في ليالي الغارات، أما راديو أم كريمة فتحتنا مباشرة، انه مصدري الأول للموسيقي، للأغاني التي جدولت مراتب روحي.
لم أعرف مصدرا مباشرا للأنغام إلا غناء أبي في لحيظات الصفو، أو أناشيد الحضرة في المساجد التي صحبته إليها، كذلك موالد الأولياء والصالحين، دائما كنت أرهف سمعي لأصغي إلي مصدر لا أقدر علي التحكم فيه، مهلا، فلأمعن هنا، قالت لي محبوبة في لحظة مكاشفة يوما بعد لواح نفرتي منها وصدي.
»ياخوفي.. تكون ممن يحب البعيد..«.
هل ترجع الأسباب إلي تلك الأويقات الأولي، عندما أمد البصر إلي الأفق، أتابع أسراب الحمام في الفضاء، الطائرات العابرة، المظلات عبر النوافذ، ما يلوح عند الأفق البعيد، الأغاني، مقدمات البرامج، خاصة الموسيقي التي تسبق نشرات الأخبار، وبالتحديد عند الثانية والنصف ظهرا، أيام الجمع، العاشرة صباحا، موسيقي ما يطلبه المستمعون، عرفت فيما تلي ذلك أنها رقصات اسبانية لبرامز ما يتقدم بابا شارو فلم أقف حتي الآن علي مصدرها، في ليالي رمضان ما يمهد لألف ليلة وليلة من المعالم، لذلك عندما استمعت إلي شرح الدكتور حسين فوزي في منتصف الستينيات لمتتالية شهرزاد لم أعان، نفدت إليّ مباشرة، أما حفلات أم كلثوم فلم أستوعبها إلا فيما بعد، كنت أسهر مع الساهرين في الحارة، لكن النوم يغلبني، راديو أم كريمة يستقر في الشرفة، ترفع درجة الصوت كأنه مكبر فائق، لكن.. لو تصادف أنها غاضبة أو في خصام مع إحدي الجارات فإنها تغلق النوافذ والشرفتين، تحرم الجميع، أما السينما فعرفت منها نعمة ليلي مراد، وطعامة محمد عبدالوهاب، وشجن فريد وشقيقته أسمهان، ثمة آخرون، منهم عبدالعزيز محمود، عبدالغني السيد، محمد عبدالمطلب، محمد الكحلاوي، نور الهدي، صباح طبعا، أما محمود شكوكو واسماعيل يس فكانت لهما طلاوة.
لم يكن ثمة مصدر طوعي، أحتاج إليه فأصغي، أفيض فأغلقه، دائما من بعيد، لذلك أصحب الموسيقي أينما حللت أو مكثت، ويخيل إليّ أنني لن أرتوي منها أبدا، لهذا تفصيل سأورده في مكانه، لكن ما يعنيني الآن ذلك الخاطر الذي لاح عند تدويني هذا، ربما يرجع تعلقي بالبعيد إلي ارهافي السمع لألتقط ما ليس في متناولي، أو مد البصر ليلم بالأطياف والظلال البادية، ربما صح ذلك وربما كان مجرد توهم، غير ان المؤكد مفارقتي عالم الوجود بدون أن أعرف ما يخصني، ما يجري داخلي، ما يمت إليّ، ستتفرق ذراتي محتفظة بما يخصني، فلأعد إلي ما بدأت الخوض فيه.
في الرابعة عشر ةعرفت الطريق إلي مقهي قريب من خان الخليلي، طلاء جدرانه أزرق، كذا مقاعده، جدرانه، كل ما فيه مرتب، قصدته مع جار اسمه حمدي، كان يسكن الطابق الأخير من بيت أم كوثر، مقر إقامتنا الثاني في درب الطبلاوي، المقهي فسيح، بعيد عن الميدان، اللعبة الوحيدة فيه، الشطرنج، أتقنت أصولها، ساعات طويلة أجلس أمام حمدي محدقا إلي الرقعة، غير ان المقهي يرتبط باكتشاف مبهر، لم يكن مجهولا عندي، لكنني لم ألم به، لم أطلع علي مواضع جماله، أصغيت إليه يردد..
»والموجة بتجري ورا الموجة
عاوزة تطولها«
يتكرر المقطع إحدي عشرة مرة، فيما بعد فهمت بالوعي بعض مصادر الجمال، عندما أصغيت إلي شرح الموسيقار عمار الشريعي، أوضح اختلاف الأداء في كل مرة من مقام مغاير، بعض الشروح فسرت لي قبسا من فرادتها، لكنها مثل سائر ما يخصني، أدركها في مجملها، ليس مهما أن أفهم، هذا غوص في التفاصيل، وإن كان الوعي بمكامن القدرة يزيد المتعة، يعمقها، غير أنني كثيرا ما أفضل الاستيعاب مباشرة بغية التوصل إلي شرحي، ألم بالفروع لاستعادة الجذور، لعلي أصل إلي أمر مستجد، مغاير لكل ما سبق، غير أنني لا أوفق في سائر أحوالي وسأضرب مثالا من خلال هيامي بالنغم، ذلك انني في الأصباح التي أنفرد فيها بكتبي، أنفض الغبار عنها، أرتبها، أعدل أوضاعها حتي تتساوي، لا تعيقني الحركة عن الاصغاء إلي الصمت، سنوات طوال أخلو به أحيانا عندما تسنح الفرص في الأماكن النائية، المعزولة، أو الأويقات الباكرة من أيام الإجازات، خاصة الجمع، بعد بلوغي تمام العقد السادس أدركت أن ذلك الصمت ليس عدما، لو أنه خال تماما، ما أمكنني الاحساس به، استشعار وجوده، صحيح لا أقدر علي التعيين أو التحديد، لكنني أعي وجوده بشكل ما، أيضا ما يحوي، عند لحظة معينة أدركت أن الموسيقي بجميع أطيافها وأنغامها موجودة، والنبوغ الذي يختص به البعض إنما يكمن في قدراتهم، مهاراتهم علي استخراج ما بطن، ما كمن من ألحان، دونت ما خطر لي في نثار المحو الذي حاولت فيه الامساك بما يتذري مني، في العام التالي دعاني صاحبي فريدريك إلي المؤتمر السنوي الذي يعقد للموسيقي الشرقية، أقدمت علي شرح ما استوعبته عبر تأملي فوجئت بأستاذ فرنسي من المصغين يعقب قائلا: انها فكرة أفلاطونية، استفسرت من فريدريك فأكد لي ما قاله الأستاذ، أقسمت لنفسي، بيني وبيني انني لم أطلع علي المنسوب إلي أفلاطون قط، كيف يتأتي ذلك؟ جري لي مثل لما سبقني إليه آخرون، لو فصلت لأطلت، غير انني أقتصر علي هذا المثال، يخيل إليّ أن المدركات قد تم التوصل إليها في مجملها وليس التوصل إلي الجديد المتوهم إلا تنويعا علي التفاصيل، الكليات بينة، ما نحاوله، بذل الجهد صوب التفاصيل، وهذا من الأمور الدقيقة التي قد أخوض فيها إذا ما قدر لي تدوين دفتر للصمت، وآخر للألوان، ربي تمم بخير.
أعود لأتمم ما بدأته، فأقول مرة أخري انني حتي ذلك الوقت، بلوغي الخامسة عشرة تعرفت علي الأنغام والأصوات من مصادر قادمة من بعيد، حتي في المقهي الأرزق، كان الجهاز مثبتا إلي رف لابد من الارتقاء إليه علي سلم يحتفظ به صاحب المقهي في الفناء الخفي، ويبدو أن ثمة تعليمات غير معلنة بضرورة البث باستمرار والتلقي من الإذاعة الرسمية، أو صوت العرب، في عام ستين دخل أبي البيت يحمل أول مذياع يخصنا، صندوق أحمر من البلاستيك القوي، مفاتيحه سوداء، ولوحته مكتوب عليها باللغتين العربية والإنجليزية أسماء المحطات، يتصل به سلكان الأول يمكن مده خارج النافذة فيقوي القدرة علي الالتقاط والثاني يمكن وصله بأنبوب المياه للتنقية، هكذا اتصلت مباشرة بمصادر البث، أمكنني السهر مع أم كلثوم حتي نهاية حفلاتها، بعد السلام الجمهوري يسود الصمت المحطات المحلية، تدركني وحشة تلازمني حتي موعد بدء الارسال في الصباح الباكر، أستيقظ لأصغي إلي الأخبار عبر الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية ثم أستأنف نومي أو أفارق رقادي إذا كان موعدي قريبا، مازلت علي هذا الحال، في تلك الأيام البعيدة بعد توقف إذاعات القاهرة وصوت العرب ثم الشعب والشرق الأوسط والقرآن الكريم أجتهد في التقاط الإذاعات البعيدة والتي لا تتضح معالمها إلا ليلا، في عمق الصمت وهدوء الحال. أصغي إلي لغات أجهلها، لا أعرف أبجدياتها، من أين؟ من ينطق؟، ما المعاني الكامنة؟، أما ما يدفعني إلي حدود التقلقل وبدء التماهي فتلك الذبذبات التي لا أعرف مكوناتها أو منابعها، ربما تصدر من عمق الكون، من صميم مجرتنا، من أخري، من موضع لا يمكن تعيينه بعد، في الفضاء السحيق مصادر للمويجات الراديوية، ما أتصور أنه شوشرة أو صفير يستعصي علي الفهم، ربما يكون نهاية انهيار نجم سيتحول إلي ثقب أسود يبتلع حتي الضوء فلا يصدر عن شيء، وربما يكون طورا من أطوار اكتمال نجم ستسري فيه حيوات شتي وخلق يستقبلون، يتفاعلون، يتواعدون وينادون بعضهم بعضا برقيق اللفظ بعد ألفة واجتماع، فلا يكون وداع إلا بعد امتزاج وتدان! أحيانا تتطلع أمي مستفسرة: ما هذه الأصوات التي أطيل الاصغاء إليها؟ تسأل عن غير احتجاج، تتقبل راضية ما أقدر عليه، سهري، استغراقي في القراءة، أو عند التطلع إلي بعيد، تأبي ان تغفو إلا بعد اغماض عيني، إذا كان الراديو مغلقا، لا أستمع، تطلب أحيانا إذاعة القرآن الكريم، إذا ترقرق الشيخ محمد رفعت تطرق حتي يفرغ، أما أغنيتها الحنينية فلم أدرك دلالة تلك الذبذبات ورفات الجفون إلا عند استعادة اللحظات بعد انصرامها.
»علي بلد المحبوب وديني
زاد وجدي والبعد كاويني..«
من ديوان الشعر العربي
المرء يجمع والزمان يفرق
ويظل يرقع والخطوب تمزق
صالح بن عبدالقدوس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.