استدار الاثنان بالسرير المتحرك الموثق إليه بحزامين، الأول عند الصدر، الأخر يلتف حول الساقين، قال أحدهما إنه السرير الذي ستجري فوقه الجراحة، طلبا منه الانتباه، صحيح أنه موثق جيدا لكن الحذر ضروري، الاندفاع سيبدأ بسرعة لاتلحظ في البداية لكنه سيتزايد إلي درجة لايمكن تخيلها كلما أوغل في الممر الأسطواني المؤدي إلي المرحلة التالية، مع تمام عبوره سيتخلص تماما من أي موسيقي متبقية في ذاكرته. بدون ذلك لن تبدأ العملية. مستلق تماما علي ظهره، كأنه جزء من السرير البيضاوي، المستطيل الموازي تماما لعرض الجسم وطوله، كأن صوت الرجل آت من مكان آخر، له كيان مستقل، لا يصدر عن أحد، يحاول رؤية ما يقع عليه البصر من عناصر، الغالب علي الألوان. أبيض، أزرق، درجة من الزرقة المشعة بالضوء، الجدران من مادة صناعية، كأنه في سفينة فضاء، لكم تساءل عن اللحظات التي تسبق عبور الوعي إلي السبات العميق الذي سيدوم عدة ساعات، وقد يستمر إلي الأبد، جميع ما يبصره الآن ربما آخر ما يراه. لا يمكن التنبؤ أبدا بمن سيكون إلي الجوار في اللحظات الفاصلة، أو طبيعة الموضع كذا التوقيت الذي سيجري فيه العبور، مما عرفه عند ذهاب الأقربين، أن المؤازر، المتواجد في مثل هذه الأويقات هم الغرباء الذين لم يلازموا طويلا، في حالته الآن يتجسد المعني، إنه موفد إلي بلد بعيد، معظم من يتعامل معهم لايعرف أسماءهم الا بعد التدقيق في السطور المكتوبة، المؤطرة بغلاف شفاف. المعلقة الي العنق، بعضهم ينطق اسمه بمجرد الدخول، لكنه لايلتقط الحروف أو التفاصيل لسرعة الحديث وغرابة اللكنة. الآن، لا يدقق في شيء، لايعنيه شيء، ينعدم التوقع عنده، مالم يتعجب له حتي، تلك الرغبة في أن يمر كل شيء بسرعة، أن يمضي إلي الغياب مختصرا جميع الخطي، لايتعلق بالمرئيات، بالأشياء الملموسة، لم يدهش لحديث الرجل عن الموسيقي رغم غرابته، إنهم يشرحون كل شيء في اليوم السابق. ما سيجري حتي الدخول في السبات، تفاصيل الجراحة من الأسرار، لا يعرف إلا الخطوطّ العامة. كذا المخاطر المتوقعة والتي وقع علي تحمل مسئوليتها تجنبا لأي مشاكل قانونية ربما يثيرها أهل المريض، يبدو أنه يقترب. عند نقطة ما، يلزم السرير مايشبه القضبان، خط مرسوم موثق يتصل بالعجلات التي يبدو ان عددها تزايد، لم يعد هناك أي وجود للرجلين، بينما يختفي استواء السقف ويحل التقوس، يخفت الضوء لكن غلبة اللونين ماتزال، أبيض، أزرق، مع بدء اندفاع السرير البطيء، غير المدرك، يسمع ما يشبه التصفيق، ثمة حفل في مكان ما علي جانبي النفق، لكنه لايستطيع التعيين، طبيعة الجمهور، أحد الحاضرين »الله الله..«، يمكنه التحديد، حفل غنت فيه أم كلثوم رق الحبيب، ربما في نفس العام الذي ولد به، ربما قبل وفادته بشهرين، عندما أصغي الي هذا التسجيل بالتحديد أدرك انه مغاير. انها لاتغني بل ترفرف، عندما يخف الإنسان ويشف، انها لا تلامس الأرض بخفيها ولا بقدميها، بقدر ما يعنيه رفعة ادائها، بقدر ما يتوقف عند تعليقات السميعة قادمة من الصالة، كأن الحفل قائم الآن، تتداخل ردات الفعل، هذا ليس لأم كلثوم، حفل لصباح فخري، لا.. لصبري مدلل، مؤكد انه جالس بحضرة محمد باجدوب في قصر الباهية مستحيل، إنه في مواجهة ذلك المطرب الطنجاوي، غاب عنه اسمه، يري جيدا مئذنة الكتبية الجوق فسيح، اغطية الرؤوس، الملامح الذكورية، الأنثوية، غير ان المطرب يتوجه اليه هو، وعندما انشد ما قاله الشستري: افهمني قط.. افهمني قط انخلع قلبه وفط من مرقده، لحظة ترددت عليه مرارا، قفلت الآن، تختفي في موضع ما يتبعها رضوان أفندي، الأصلع، شجي الصوت، اذ يغلق النوافذ ويبدأ في الشجو. مصر التي في خاطري وفي دمي كأنه قفز من يسار ترام يندفع في شارع الخليج الخلو من الخلق، تتداخل الأنغام. يحاول التمييز. مع السرعة يدرك ما يجري، كلما ولي نغم يعتم النفق المؤدي، يثقل الهواء، يخطر له النداء لفك الوثاق الذي لايدرك موضعه أو مربطه الآن، أصوات اولئك المجهولين »المطيباتية« من خلال الأسطوانات الأولي لمحمد أفندي عبدالوهاب، لصالح افندي عبدالحي، لأمير الطرب عبدالحي حلمي. »الله.. الله ياسامي افندي..« يدرك الأن مع خروج نغم الكمان، مع تواريه الي الأبد، ان العازف المجهول هو سامي الشوا، يذرف دمعا. عين الدمع الذي نتج عن عزف الكمان في حفل نيويورك، أول الخمسينات، يتداخل مع نغم صادر عن آلات لايعرفها، أصل من أصول الجاز عبر مكان ما في غينيا بيساو، أما جميل بك الطنبوري فلم يكن أمره سهلا، لم يفارقه إنما انخلع منه، كذلك الحال مع تاتيوس افندي، ومحمد القبنجي، وخاتشادوريان، اما موسيقي الداجا، خاصة عند تصاعدها وتفاعلها فلها شئون، كذا ماريا كالاس والمؤثرة وسائر الرباعيات الوترية والأنغام مجهولة المؤلفين الموازية لصفرة المغيب عند نهر اليانجستي، وايقاعات الرحل من الفجر والقبائل المضطرة الي مفارقة الألف، أما ما جعله موقناً من الدنو فمفارقة ليلي مراد وصوتها اللئلائي، صعب التعيين، وصمت أعقبه تردد بعده آهات وهدير الرهبان البوذيين علي برك التأمل وتخوم مالا يمكن تعيينه من سهوب الروح.