عن تخصيص بعض الصالحين وذوي القدرة والسلطان حصصاً من الأوقاف للطيور للعابرة. للحيوانات الضالة، الهائمة والعاجزة. توفر الإمكانات لوضع الحب والماء فوق المآذن والأسطح، أعلي الملاقف والقباب. لكم ود تقديم شيء ما إلي من حلا بنافذة بيته، لكن ثمة حائلاً، خطر له ذلك أثناء أقترابه وطول تأمله. باح به نطقاً. التفتا في وقت واحد. كأنه ينتظر منهما الجواب. نظرتهما الجانبية، العلوية. الدهشة لا تدوب، فقط الرأسان يميلان إلا أن الجسدين ثابتان، يبقي الظل المعتم كأن شيئاً لم يكن. لايغفو إلا بعد رؤيتهما. استيعابه وضعهما. لم يعد يعبأ بما يصدر عنه أو عن حركته من أصوات أو إشعال أضواء. غير أن ثمة ما أقلقه. لم تمض الأوضاع كما اعتاد منهما. قلق بعد منتصف الليل. عندما نظر كما اعتاد لحظة اجتيازه إلي الحمام لم ير إلا مفرداً! أين الآخر؟ لم يتغير وضع ما يشاهده. كأنه يقف علي ساق واحدة. يقترب متفحصاً. لا.. الوضع نفسه. هل يري أحدهما فعلاً. الظل لا يمنحه اليقين، فقط التخمين، ربما يكون الفرخ الذي يراه وحيداً غريباً، مستجدا هنا. ربما أقلع الآخران إلي وجهة لا يعلمها، لكن رساخة الوقفة، ثبات الوضع، إذن.. أين الوليف؟ أين الوليفة؟ لا يعرف الذكر من الأنثي، معذور.. لا يراهما إلا ليلاً. مجرد ظلال. حتي لو تمكن منهما نهاراً فأني له معرفة النوع؟ لم يخطر له ذلك، انشغل بالوضع، ليس بالنوع. أين الآخر الآن؟ لم يجد جوابا قبل أربعة ليال حار خلالها، يبدو أن همه نضح علي صوته حتي إن ابنته التي ترصد نبره لتتعرف علي دخائله وما يخفيه عنها. أصرت أن ثمة شيئا، يعرف أن ما يرعبها فقد مفاجيء أثناء اغترابها. يحاول طمأنتها رغم أن ذلك يقينه، يعول هم تلقيها خبره لحظة ما، يوماً ما، يقينه الداخلي أنها صارت دانية، يحاذر النطق بما يثير الشك في أي بواعث، لم يخبرها بظهور اليمام، بحرصه. بمتابعته، بقلقه لاختفاء الوليف أو الوليفة. كيف تتلقي عنه ذلك، ستظن أنه يقص عليها ذلك ليخفي ما هو أخطر، لذلك كف.. صباح اليوم التالي لاكتمال شمل اليمام سعي إلي مهاتفة أسرته، كالعادة بدأ بابنته، الوقت هناك متأخر سبع ساعات، علي الفور قالت: صوتك أحسن يابابا. أوشك أن يطلعها. عودة اليمامتين، غير أنه حاش نفسه عند الشروع، هل يثق أنهما هما. هما. هل اليمام هو، هو؟ أم حل غيره. لايعرف إلا ظلين، فقط ظلين، لايدري، لايعرف. لايوقن من شيء، حتي مثولهما أمامه، كل في موضعه يأبي.. ضوء ليس له مرجعية عندي، مشطوف كالزجاج النقي، متمدد، معلق، لايستند إلي شيء، لا ينفذ من خارج، ولاينتهي إلي داخل، مستغلق البداية والنهاية، أحاول الإلمام. لست بمفردي، ثمة حضور آخر، لكن لا أعرف أين؟، ربما في الممر المؤدي إلي الحمام، غرفة المعيشة، حجرة المكتب التي أحرص علي إغلاقها عقب مفارقتي لها، ثمة وجود ما، ربما تمكن أحدهم من الوصول إلي السطح والتدلي منه إلي إحدي الشرفتين، أقوم موزعا بين اليقظة والمنام. الضوء ينير لذاته، ينتهي عند حدوده، لا يجعلني أبصر أي شيء، أتحسس الجدار، صعب الاهتداء إلي الباب، تتوالي أنفاسي في إثر بعضها، بينما يرتفع النبض في أذني، عرض بدأ منذ عدة أعوام ولاعلاج له، أفتقد الوجهة، غير أنني أمسك المقبض، أديره، كأن الضوء يؤدي إليه، رأيته، هاهو يقف في الحمام، مواجها للمرآة، أوشك علي الإنشطار بتأثير خروج الصرخة من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟ خوف لا قبل لي به، مغاير لما أعرفه في كوابيس وعثرات نومي، لتنوع ما عرفته خلال سنواتي المولية من أماكن اضطررت إلي النوم فيها، كهوف الصحراء الشرقية، رمال الجلف الكبير، مواسير منسية في الجبهة، في عربات معطلة، محطمة. في زنزانة الحبس الإنفرادي، في القصرالمهجور بالمنيا الذي كنت أتمدد فوق أرضية إحدي غرفة الخمسة والستين، إستراحة الري شبه المهجورة، منها رأيت إغراق انسان موثق، مكمم، مثقل بالأحجار. لمحت من مكمني مقاومته الخرساء قبل الإلقاء به في ترعة الإبراهيمية. لتحدد ما عرفت، وما عاينت، وما مررت به. كنت علي يقين انني تجاوزت ما يمكن اعتباره خوفا، خاصة ذلك الغامض. مجهول الصفة، صرخة تحولني الي مصدر للخشية للفزعة، لابد أنها أيقظت من يهجعون في مراقدهم من سكان المباني العمارة التي اقيم بآخر طوابقها، صرخة نابعة، قادمة من غور لا معرفة لي به، هل انطلقت أم أنها سرت مني إليّ، لم يسمعها غيري، البواب يسهر، لم يبد علي ملامحي أي استفسار مكتوم. لو انه أصغي لسأل أو بدا عليه الفضول، شككت فيما عندي. غير أن ما رأيته ماثل أمامي، الوضع الجانبي الذي بدا عليه، يقف علي شيء لم أتبين وضعه في مواجهة الحوض، كان يتجه إلي الأمام، يداه تديران شيئا ما، هاديء جدا، لم يلتفت إليّ عند إطلاقي الصرخة. ربما جموده واستغراقه وانعدام رد الفعل نحوي هو ما أنجز خوفي، فقط وجوده، مجرد حضوره داخل البيت، هذا الأداء الغامض الذي يقوم به، منذ عامين أقيم بمفردي، الأنباء هناك للعمل، ورفيقة الدرب تحت العلاج من المرض الشرس، دائما أضع الاحتمال، أن يظهر غريب في البيت. إما لصا، وإما قادما من طرف أحد الذين أفضح فسادهم، أتصدي لهم بما أكتب. منذ سنوات، ظهر حارس أمام البيت، اتصل بي ضابط برتبة لواء، طلب مني ألا أنزعج، إنه إجراء وقائي، عند اقتحام وكر يأوي أعضاء جماعة متطرفة، عثروا علي تخطيط للبيت والطرق المؤدية إليه، منذ ذلك الحين أتحسب، عندما بدأت إقامتي المفردة، أستدعي المواقف المتخيلة، رد الفعل إذا ظهر أحدهم داخل البيت، كيف سأتصرف؟ ما سيبدر عني؟. أما أن يظهر هكذا، كأنه لا حضور له، لا حواس، لا نية عنده للتوجه نحوي، هذا ما خيل إلي، غير أن مثوله هكذا ماروعني، ما استوفر يقظتي في الليلة التالية، مستوثقا وجوده، ظهوره المباغت..