ثمة شيء، شيء كامن في كل مكان، ربما يسفر عن طبيعته منذ اللحظات الأولي، وربما يمضي الانسان عمراً محاولاً اكتشافه، هذا الشيء هو ما يمنح المكان خصوصية، ما يجعل الأقصر تختلف عن فينسيا، أو جهينة مغايرة لبراتسلافا، إنه ذلك الشيء الناتج عن التراكم البطيء للعناصر المرئية والخفية، منذ وصولي إلي براتسلافا وأنا أبحث عن أسباب الخصوصية، علي مقربة من الميدان الرئيسي في المنطقة القديمة حيث الخيام المنصوبة، المتجاورة بمناسبة اقتراب عيد الميلاد طبقا للتقويم الغربي، (الكريسماس)، ثمة برج يعلو بوابة من الحجر، سلافي الطابع، يتكون من ثلاثة أجزاء، مربع مستطيل تتخلله نوافذ ضيقة، يعلو البوابة الحجرية، اسمها سان ميتشيل، فوق أرضيتها رسمت دائرة حددت بالمعدن، تشير إلي الجهات الاربع الأصلية، علي كل جهة كتبت أسماء مدن، »القاهرة« داخل مثلث، علي الجانب الجنوبي الشرقي، تأملته طويلاً وبلغ من قوة الاسم وحضوره أنني شعرت كأني رأيت مدينتي. الجزء الثامن من البرج ليس به نوافذ، إنما اربع ساعات لتحديد الوقت، كل منها تواجه جهة، يعلو البرج جوسق متدرج أخضر اللون، قاعدته بصلية الشكل وهذا ما يمنحه طابعا سلافياً، القباب السلافية مستوحاة من البصل.. يزداد نحافة كلما ارتفع إلي أعلي، البرج معلم، مهيمن علي الجزء القديم، يشرف علي ساحة صغيرة مبلطة بالحجر، يقف الشباب يشربون النبيذ الساخن المخلوط بالعسل، يعد مشروباً قومياً، اعتذرت لمرافقي عن تذوقه لأنني لا أشرب الخمر، الكل وقوف، الإعمار متقاربة، أناث وشباب، صحيح إن أهل سلوفاكيا متحفظون نسبياً لاشتغال معظمهم بالزراعة، غير أن التقاليد الأوروبية الحالية تطال المجتمع هنا، فيمكن لاثنين أن يعيشا معاً بدون زواج، وأن ينجبا، وأن تعترف الكنيسة ويعترف المجتمع بالطفل، المهم أن يأتي الطفل وليس المهم كيف جاء، بل إنني أسمع حكايات غريبة عن نساء يقررن الإنجاب، فيخرجن مع الاصدقاء إلي رحلة يتم خلالها التعارف الذي قد يحدث فيه لقاء جنسي عابر يتم خلاله الحمل، وفي ظروف أخري سمعت وقرأت عن بنوك تحتفظ بمني الذكور بحيث يكون تحت الطلب، ويتم تلقيح الأنثي التي تريد انجاب طفل بالجرعة المحفوظة من أب مجهول، هكذا يجيء الطفل يتيماً من الأب إلي العالم، تتطور العلاقات الانسانية وتتغير وتتجه إلي مسارات لا نقدر بطبيعة تربيتنا وعقائدنا أن نستوعبها، هكذا العالم الذي نعيش فيه. خواطر عديدة توالت عليّ وأنا أقف في تلك الساحة الصغيرة تحت بوابة سان ميتشيل أحد أبرز المعالم في براتسلافا، الوجوه تفيض بالأنس وبعضها تطفر منه السعادة، بينما التطلع والأمل والترقب من الأخري، تلك الملامح لا أعرف أصحابها، كما أنهم لايعرفون عني شيئا، ربما ينتبه بعضهم إلي ذلك الغريب المتأمل، لكن لايحدث اتصال بسبب انتفاء المعرفة وصعوبة الحوار لجهلي باللغة، عندئذ أصير موجوداً وغير موجود، موجود بالفعل، بالحضور، وغير موجود لأنني لا أعرف شيئا عن هؤلاء الذين أراهم، وأن كانت تلك الحالة يمكن أن تمر بالانسان في أماكن يعرفها ويألفها، غير أن هذا نادر. شيئا فشيئا أستوعب المدينة، غير أنني لم أمسك بعد بما يمنحها تلك الخصوصية التي أرصدها، في الصباح الباكر خرجت إلي الشوارع المحيطة بالبيت، أنه الجزء القديم، لقد خطط في القرن الثامن عشر (1871) بتوجيه من الكاردينال جوزيب باتياني رأس الكنيسة الكاثوليكية وكان مجري الأصل، مازال القصر الكبير يطل علي الساحة بطرازه الذي يعود إلي عصر النهضة، القلب القديم للمدينة مدجج بالرموز الدينية الكاثوليكية التي بنيت زمن حكم أسرة الهابسبورج التي سيطرت علي النمسا والمجر وسلوفاكيا أيضاً، ربما كان القصد الكامن محو ذكري وصول الأتراك إلي هذه المنطقة، لقد وصلت جيوش الامبراطورية العثمانية بالفعل عام 3451 إلي براتسلافا، ولكن أرتدت عن أسوار العاصمة النمسوية فيينا، بعض المؤرخين يعتبرون ذلك بداية انكسار وانحسار الامبراطورية العثمانية، ربما كان ذلك صحيحاً من الناحية العسكرية، لكن الانكسار الحقيقي بدأ في رأيي عندما تغيرت سياسة الامبراطورية إلي الضم والاستعمار عبر البلاد الإسلامية، وليس اتجاهها غربا، بدأ ذلك بالتحديد عندما قرر سليم الأول الاتجاه بجيوشه إلي الشام واعلان الحرب ضد السلطنة المملوكية في مصر، ثم بدأت الوقائع بهزيمة الجيش المصري المملوكي في مرج دابق شمال حلب، ثم الزحف إلي القاهرة بعد أن أفتي له العلماء المنافقون بفتاوي عديدة تبرر غزو مصر البلد الاسلامي، أطرفها أن السلطان المملوكي سك نقوداً عليها اسم الجلالة وهذا يعرضها للتداول وملامسة أيدي غير المسلمين لها، من هنا حق اعلان الحرب عليه واحتلال مصر! تذكرت ذلك مبتسماً وأنا أتجول في الميدان القديم خلال الصباح الباكر، في المواجهة دكاكين صغيرة تبيع العاديات والفرو ومطعم حديث، إلي جواره مقهي، أقتربت منه، المقهي مكسو بالخشب، اللون الغالب البني بدرجاته، كل ما فيه يمت إلي البني، المقاعد لها شكل خاص، كذا المناضد البيضاوية، الأرفف تصطف فوقها علب تعرض جميع أنواع الشيكولاتة في العالم اجتزت الباب، من البرد إلي الدفء رأيت نافورة شيكولاتة، قاعدة عريضة من المعدن ترتفع منها زهرة ضخمة تعلوها أدوار تصغر شيئا فشيئا تنطلق الشيكولاتة السائلة من ذروة النافورة لتنحدر متجهة إلي أسفل إلي القاعدة حيث تعاود الدورة من جديد، أجلس إلي المنضدة واضح أنني الزبون الأول، أتطلع إلي الميدان العتيق، يتأكد يقيني أن هذا مكان فريد لم أعرف له مثيلاً في أي بلد زرته، يخيل إلي أنني أمسكت بشيء خاص.