لا تحتاج جماعة الإخوان المسلمين إلى دليل إثبات إضافى لإدانة مشروعها، يكفى أن تترك لها الزمن والمساحة، وستكشف عن وجهها، هذا ما أدركته فرنسا متأخرة، عندما وجدت أن إحدى أعرق ديمقراطيات أوروبا باتت ساحة صامتة لتغلغل تنظيم عقائدى يُخفى فى نواته مشروعًا نقيضًا للدولة، لا يفاوض على السلطة، بل يتسلل إليها قطعة قطعة، حتى يُعيد تعريفها على طريقته. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: حين تُشهر إسرائيل ضيقها فى وجه «الممول التاريخى» الاجتماع الاستثنائى الذى دعا إليه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لم يكن اجتماع أزمة طارئة، بل لحظة مواجهة متأخرة مع واقع كان يتشكل منذ سنوات، تحت عيون الجميع، تقرير مجلس الدفاع والأمن القومى لم يتحدث عن «تهديد محتمل»، بل عن «تهديد متجذر»، ينتشر صعودًا من القاعدة إلى البنية السياسية، ويعمل بصمت على تفكيك نسيج الجمهورية. لقد فهمت فرنسا أخيرًا ما فشلت فى إدراكه لعقود: أن جماعة الإخوان لا تأتى لتعيش فى الدولة بل لتحل محلها، مشروعها لا يبدأ بالثورة بل بالتدرج، لا يعتمد التفجير بل التآكل، ولا يرفع شعار الخلافة مباشرة، بل يكتفى مؤقتًا بالحديث عن الهوية والتمثيل والتعددية حتى تصير مؤسسات الدولة نفسها مجرد واجهات لمجتمع موازٍ صاغته الجماعة على عينها. الخطير هنا ليس فقط فيما قاله التقرير، بل فيما لم يقله: أن التنظيم قد استثمر ببراعة فى ضعف الذاكرة الأوروبية، وفى ارتباك الليبراليات الغربية، وفى ميلها المَرَضى إلى الاعتذار المسبق عن أى إجراء يمكن تفسيره بأنه «عنصرية» أو «تمييز» وبهذا المعنى، فإن الإخوان لم يكونوا ضيوفًا على الديمقراطية، بل طفيليات سياسية تعيش على هوامشها، وتزدهر فى خانات التردد والارتباك. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: بين شظايا الحرب وخريطة الإنقاذ هم لم يدخلوا السياسة ليؤمنوا بها، بل ليمتطوها، ويستعملوها، ثم يتخلوا عنها متى انتهت وظيفتها هل يحتاج أحد إلى أدلة؟ فلينظر فقط إلى سجل تصريحاتهم فى الشرق، ومقارنتها بخطابهم فى الغرب: فى الأولى يتحدثون عن «الحاكمية»، وفى الثانية عن «التعددية». فى الأولى يلعنون الديمقراطية باعتبارها «جاهلية»، وفى الثانية يرفعون راياتها إذا أوصلتهم إلى مقعد بلدي. من هنا، فإن ما يجرى اليوم من محاولات انسحاب تكتيكى من السياسة باسم «العودة للدعوة» ليس إلا تراجعًا تحت الضغط، لا مراجعة من الداخل فمنذ متى تعترف هذه الجماعة بخطأ؟ ومنذ متى تقوم بمراجعات حقيقية لا تليها انبعاثات أكثر مكراً؟ التاريخ يعلمنا أن كل مرة يضيق فيها الخناق عليهم، يتقنون التلاشي، ثم يعاودون الظهور بحلة جديدة، واسم مختلف، وواجهة أنعم. لكن هذه المرة، الأمور مختلفة. ففرنسا لم تكتفِ بالمراقبة، بل وضعت يدها على الجرح، وربما على الخنجر أيضًا التقرير لا يتهم فقط، بل يُدين استراتيجيتهم طويلة النفس: اختراق البلديات، التمدد فى الجمعيات، تجنيد النشء، وصياغة خطاب موازٍ يُعيد تشكيل الواقع الجمهورى من تحت الطاولة. إن أخطر ما فى المشروع الإخوانى فى أوروبا، أنه مشروع يمضى دون أن يرفع سلاحًا، لكنه يستهدف البنية العميقة للدولة: قيمها، وقوانينها، وهويتها المدنية إنه انقلاب بطيء لا يحتاج إلى انقلاب عسكري، بل فقط إلى صناديق اقتراع ونظام متسامح و»يساريين نبلاء» يظنون أنهم يدافعون عن التعدد، بينما هم يسمحون بتفكيك معنى الدولة من أساسه. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفي يكتب: مرافعة باسم العدالة بات واضحًا أن أوروبا لم تعد تملك ترف التراخي، وأن مرحلة البيانات والتحذيرات قد تجاوزها الزمن الإجراءات الأوروبية المقبلة ستكون مزدوجة المسار: أمنيًا بضبط التمويل، وإغلاق المراكز التى ثبت ارتباطها بأجندات موازية، وتشريع قوانين تشدد الرقابة على الجمعيات التى تستغل مساحات العمل المدنى لبناء نفوذ سياسى موازٍ؛ وثقافيًا بإعادة بناء خطاب جمهورى علمانى يُخاطب الجاليات المسلمة بلغة المواطنة، لا الإقصاء، ويعيد دمجها فى الدولة دون وسطاء مؤدلجين. فرنسا قد تكون السباقة، لكنها لن تكون الوحيدة، ألمانيا تتجه هى الأخرى لإعادة النظر فى أطر التعاون مع الجمعيات الإسلامية بعد تنامى القلق من تشكل «مجتمعات موازية»، بينما تنظر بلجيكا وهولندا فى فرض قيود على أنشطة دعوية مرتبطة بتمويل خارجى وحتى الدول الإسكندنافية، التى طالما تبنت سياسات اندماج مرنة، بدأت تعيد تعريف العلاقة مع المراكز الإسلامية على ضوء المخاوف من اختراق المنظومة التعليمية والمجتمعية. تجربة بريطانيا مع «التمكين الهادئ»، وبلجيكا مع الجاليات المعزولة، وحتى ألمانيا التى كانت دائمًا أكثر حذرًا كلها تشى بأن ما تواجهه باريس اليوم، هو رأس جبل الجليد فقط وكل تأخر فى التصدى يعنى أن المعركة القادمة لن تكون بين الدولة والتطرف، بل بين الدولة وظل الدولة. أوروبا تتغير، لكن السؤال الآن: هل تملك ما يكفى من الحسم لتجاوز الخطوط الحمراء التى طالما تجنبتها بدافع الحرج، لا بدافع الحكمة؟ «فاسدون حيثما حلّوا» ليست شتيمة سياسية، بل توصيف دقيق لطبيعة العلاقة التى تربط الجماعة بالدولة: علاقة استغلال لا شراكة، علاقة تسلل لا اندماج، علاقة تحوير لا تطوير. فهم فى كل مكان يرفعون فيه شعار «الحقوق»، يفعلون ذلك لا من أجلها، بل من أجل أن يحصّنوا حقهم فى تقويض ما تحتها لا فرق بين مسجد يستعمل لنشر الوعي، وآخر يُستعمل لنشر التماهى مع مشروع سياسى يخفى نواياه خلف الحديث عن المظلومية. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: مصر.. مدرسة الحياد الإيجابى أوروبا التى بلعت الطعم - من قبل طواعية أو وفق مبررات وظيفية - تراجع نفسها ربما تُدرك الآن أن التسامح مع من لا يؤمن بالتسامح ليس فضيلة وأن السماح لمن يرفض الدولة أن يعيد صياغتها باسم «الحرية الدينية» هو انتحار بطيء لقيم الحداثة نفسها. ما فعلته فرنسا أخيرًا هو الخطوة الأولى والمطلوب الآن ألا تتحول هذه الخطوة إلى مجرد تقرير يُنسى فى أدراج البيروقراطية المطلوب أن تبادر الدول الأوروبية إلى تحرير الوعى السياسى من عقدة الذنب الاستعمارية التى عطّلت إدراك الخطر، وتتحرك باعتبار أن حماية الدولة المدنية لا تقل أهمية عن حماية الحدود. فقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الجماعة الإرهابية ليست جماعة دعوية ولا تيارًا فكريًا، بل تنظيم متعدّد الوجوه، موحّد الهدف: الاستيلاء، لا المشاركة. وحين يقال إنهم ينسحبون من السياسة، لا بد أن نسأل: هل لأنهم تابوا فعلًا؟ أم لأنهم فقط... انحنوا للعاصفة؟ بالتأكيد الثانية.