كأن العالم قد وقع فى كماشة من نارين؛ من الشرق، صواريخ تقطع أوصال غزة وتحرق ما تبقّى من بشرٍ وحجر، ومن الغرب، قرارات اقتصادية تقصم ظهور التجارة العالمية وتُشعل حربًا من نوع آخر.. قصف من السماء، وقصف من السوق هذه ليست مبالغة لغوية ولا مجازًا تعبيريًا، بل توصيف واقعى لعالم بات يُدار بالابتزاز، بالقوة، وبالمفاضلة بين موتين: موت علنى على شاشات الأخبار، وموت بطىء تحت ضربات الحمائية والانغلاق الاقتصادى. فما بين مشهد طفلة تُنتشل من تحت أنقاض غزة، ومشهد خبير اقتصادى يتحدث عن «مذبحة التجارة الحرة» بقرارات مفاجئة من واشنطن، تتكشف صورة جديدة للعالم: صورة لخراب واسع، متشعب، متزامن.. عالم ينهار، لكن على طريقتين مختلفتين. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: اتهام مصر وسياسة تصدير الأزمة «يوم الخراب» الذى وصفت به صحيفة «الإيكونوميست» رسوم ترامب و«تعريفاته الحربية» ليس عنوانًا صحفيًا.. بل واقع سياسى واقتصادى حين يُقرر رئيس أكبر اقتصاد فى العالم أن يُلقى قنبلة اقتصادية على رؤوس حلفائه وخصومه على حد سواء، فذلك ليس فقط انقلابًا على قواعد التجارة، بل إعلانًا عن تحوّل جوهرى فى شكل النظام العالمى. رفع الرسوم الجمركية فجأة إلى مستويات غير مسبوقة، دون مقدمات أو حوار أو منطق اقتصادى متماسك، ليس «إصلاحًا اقتصاديًا»، بل عقيدة جديدة فى الإدارة: عقيدة الفوضى الخلاقة الاقتصادية. ترامب، الرجل الذى يُدير القرن الحادى والعشرين بأدوات من القرن العشرين، يسعى لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء؛ إلى حيث كان الانغلاق عنوانًا للقوة، والجمارك أداة للحرب، والتجارة ساحة للصراع لا للتكامل، لكن المفارقة أن العالم لم يعد هو نفسه، وأن الانكفاء الأمريكى لا يُضعف «الخصم» فقط، بل يهزّ ركائز الاقتصاد الأمريكى ذاته تمامًا كما تفعل آلة الحرب الإسرائيلية فى غزة: كل قصف يُضعف الخصم، لكنه يُنذر بانفجار إقليمى أوسع، ويفتح جبهة لا يمكن السيطرة عليها. اقرأ أيضًا| إسلام عفيفى يكتب: الدراما.. المتهم المجنى عليه! قصف غزة.. والقصف الاقتصادي: المنهج واحد كلا القصفين - المادى والاقتصادى - يتغذى على نفس الفلسفة: فلسفة الهيمنة، التفرد، ونفى الآخر إسرائيل تُحاول طمس وجود شعب بمحو مدنه وذاكرته، وأمريكا تحاول فرض «موازنة تجارية ثنائية» تُفرغ معنى الاقتصاد من جوهره التكاملى، وتجعل من التجارة حربًا تستند إلى منطق الغنائم لا التعاون. ما تفعله إسرائيل فى غزة ليس حربًا ضد الإرهاب كما تدّعى، بل مشروع تطهير عرقى واضح، بينما ما يفعله ترامب ليس حربًا على العجز التجارى، بل تدمير مُمنهج للبنية الليبرالية التى بنتها أمريكا نفسها لعقود، كلاهما يستخدم القوّة بغير حساب، وكلاهما لا يرى الآخر شريكًا أو كائنًا يستحق الحياة، بل عائقًا يجب إزالته. مَن يدفع ثمن هذه السياسات؟ الجواب واضح فى الحالتين: الشعوب فى غزة، تُدفن العائلات بأكملها تحت ركام البيوت، وفى الأسواق، تُفلس الشركات الصغيرة، وتُفقد الوظائف، ويضيق أفق التنمية فى البلدان النامية. ترامب يفرض رسومًا جمركية تصل إلى 30% على كل ما يدخل إلى الولاياتالمتحدة تقريبًا، فيضرب بذلك الدول الصديقة والعدوة، ويُعيد تعريف معنى الحليف، كيف نُسمى هذا؟ «تحرير تجارى»؟ أم بداية لانهيار النظام الاقتصادى العالمى؟ الخطير فى هذه اللحظة أن القوتين الفاعلتين - أمريكا وإسرائيل - لا تتصرفان ضمن منطق القانون الدولى أو القيم الليبرالية، بل بمنطق «مَن يملك القوة يفرض قواعده»، وهذا ما يجعل لحظة 2025 شبيهة بلحظات الانهيار الكبرى فى التاريخ: لحظة ما قبل الحرب العالمية الأولى، أو الكساد الكبير، أو حتى انهيار الاتحاد السوفيتى. العوامل الاقتصادية والسياسية والعسكرية تتشابك بشكل غير مسبوق، والسلوك الدولى يُدار بلا روادع حقيقية. وفى قلب هذه الفوضى، جاءت ردود الفعل الأوروبية لتعكس حجم الصدمة. أوروبا، التى بنت مشروعها على أساس تحرير السوق والتكامل العابر للحدود، فوجئت بأن أقرب حلفائها يقلب الطاولة دون إنذار، باريس صعدت النبرة، وبرلين ارتبكت، وبروكسل لوّحت بالرد، لكن الجميع يدركون أن الردع الفعلى ضعيف، وأن ثقة الأوروبيين فى «شراكتهم الأطلسية» تلقت ضربة لا تُشفى فى داخل الغرف المغلقة، يعرف القادة الأوروبيون أن قرار ترامب لا يستهدف العجز التجارى، بل يُعيد رسم موازين النفوذ العالمية بمنطق فردى لا يُبالى بالمؤسسات ولا بالعهود. أما فى بكين، فجاء الرد سريعًا وكأنه كان مدروسًا من قبل، فأعلنت وزارة التجارة فرض رسوم جمركية بنسبة 34% على جميع السلع الأمريكية وإدراج 16 كيانًا أمريكيًا فى قائمة الرقابة على الصادرات و11 شركة أمريكية إلى قائمة الكيانات غير الموثوقة وتعليق مؤهلات التصدير ل 6 شركات أمريكية إلى الصين، وتنفيذ تدابير الرقابة على الصادرات على سبع فئات من العناصر الأرضية النادرة المتوسطة والثقيلة، حزمة من التدابير والإجراءات، ذهبت بكين إلى سياسة التصعيد، التى سبق وتعاملت بها مع ولاية ترامب الأولى، بل رأت فى القرارات الأمريكية تأكيدًا على صواب رؤيتها لعالم متعدد الأقطاب، وهى التى بدأت من قبل فى توسيع شبكاتها التجارية، وتسريع خطواتها فى بناء تكتلات موازية، وتُرسل للعالم رسالة ضمنية: أن أمريكا لم تعد ضامنة للنظام، بل أصبحت تهديدًا له. الثقة الصينية لم تكن تعبيرًا عن غطرسة، بل عن فهم استراتيجى طويل النفس: مَن يُمارس الحصار بلا رؤية، هو أول مَن يحترق بناره. العالم مأزوم... والبديل غائب فى ظل هذا الخراب المتعدد الجبهات، يغيب البديل لا يوجد صوت عقلانى دولى قادر على فرملة آلة الحرب فى غزة، ولا يوجد إجماع اقتصادى قادر على تطويق جنون الحمائية الاقتصادية الجديدة والنتيجة؟ عالم يتفتت؛ حلفاء يفقدون الثقة فى بعضهم، وشعوب تزداد كُفرًا بنظام عالمى وعدها يومًا بالحرية والنمو، ثم سلّمها فى النهاية إلى القصف. فكما أن القصف فى غزة لا يُنتج أمنًا، فإن القصف الاقتصادى لا يُنتج نماءً، كلا المسارين لا يفتحان بابًا نحو المستقبل، بل يُعيدان البشرية إلى دائرة الانقسام، والعدمية، والحرب. كلمة أخيرة: يُقال إن الأمم لا تنهار دفعة واحدة، بل تنهار أولًا أخلاقيًا، ثم سياسيًا، ثم اقتصاديًا وفى لحظة كالتى نعيشها الآن، يبدو أن الانهيار الأخلاقى قد اكتمل، وأن السياسى فى طريقه إلى التفكك، بينما يترنح الاقتصاد تحت أقدام زعماء لا يملكون بوصلة ولا مبادئ. العالم محاصر بين قصفين: أحدهما يُحوّل البيوت إلى قبور، والآخر يُحوّل الأسواق إلى ساحات خراب وبين هذين القصفين، تسقط القيم، وتُختبر الإنسانية، ويُكتب تاريخ جديد بمدادٍ من دم ودخان.