في أعماله الأحدث يبعد جمال الغيطاني عن البناء الكلاسيكي سواء في القصة أو الرواية.. ومجموعته الأخيرة الصادرة عن دار الشروق "ساعات" تضمّ عدداً كبيراً من القصص التي تشبه كادرات سينمائية شديدة الإضاءة وواضحة الألوان، يختلط فيها العام بالخاص، العالم الخارجي بذات الكاتب الذي يبدو كأنما يقتطع أجزاء من سيرته ويضفّرها بهذه القصص. المجموعة ليست عملاً للسيرة ولكن الكاتب نفسه يتخفّي خلف أقنعة محاولاً أن يطرح أسئلته وهواجسه. أن يجد إجاباته عمّا يدور حوله. أن يُفسّر تصرّفات المحيطين به. إنه يسعي لتسريب أفكاره عن العالم وهذه ميزة الكتابة الحديثة التي لا يتم تفصيلها علي مقاسات معيّنة. وكل شيء بالنسبة للغيطاني صالح لإثارة الدهشة والأسئلة. كل شيء يمكنه تشغيل قانون التداعي وربط حاضرنا بماضينا. في قصة "فم" تكون الضيفة هي المفتاح إلي ذكري قديمة. سيكتشف أنّ النسيان قانون أعظم من الإنسان وإلا كيف لا يتذكر تلك المرأة الحاضّة، المولية؟ الذات في هذا النص تعلم من انفراجة الفم أنّ ثمة علاقة كانت تربطه بها، ولكن متي وأين؟ المهم أنه "جري استفار حسّي عندي، أغدقت عليّ ينابيع غامضة داخلي، دفئاً حنوناً غمرني فأيقظ كوامني المجهدة". سيكتشف الشخص نفسه الذي يطلّ من ثنايا معظم النصوص -في قصة "سكرتارية"- أنه أمضي وقته في غرفته بالمؤسسة لا يطلب الكثير لنفسه. السكرتيرة الجديدة ستفتح كوّة في العلاقة مع الإدارة. برغم حضورها الثقيل.. إلا أنها استطاعت بدأبها أن تثير دهشته، فقد فوجئ بها تُحضر أريكة ومقعدين وثيرين لغرفته. إنه يبدو متضايقاً من التدخّل، لكنه يستمتع بالضيق الذي ينتاب الساعي الذي كان يقوم بمهام السكرتارية، وأيضاً بدخولها عليه طالبة أن تتحدّث من تليفون المكتب في شئون تخصّها!! ومثل القصة الأولي يحدث الاستنفار في قصة "شغالة": "دملجة جسدها وانحناءة كتفيها الملساوين تثيران ضجيجي المكتوم، وتعدان بنيران ألمح لهبها وربما لا أقدر علي الاقتراب منها، فما البال باجتيازها؟".. ولكن دائماً ليس معروفاً بالضبط ما سيمضي إليه الحال. . فبرغم وضوح الصورة إلا أنه ليس ثمة يقين دائماً بأن ما يحدث حقيقي، كأنّ الأحداث تدور في ذهن أبطالها. يعود الشخص إلي مؤسسته في كثير من النصوص، يشغله هم تبدّل الأحوال، مراحل التقدم والترقي بالعمل، الطريقة التي يتعامل بها الزملاء. عدم الخصوصية التي يفرضها التزاحم لدرجة الحديث في التليفون همساً -قصة "مكتب"- اضطراره لتبديل المكتب مع زميل لم ير مطلقاً عينيه إذ أنه يرتدي نظارة دائماً. أحدهما يستخدمه مساء والآخر صباحاً. ودائماً ما يعود الراوي إلي اللحظة الآنية، لأنها الأخطر، وهي التي تكشف أين نقف. ما موضع أقدامنا بالضبط؟ وفي القصة ذاتها يبدو أن أمراً يجري، في الأغلب انتقال إلي مكان جديد. يستمع إلي المسئول الإداري الذي يُفاجأ به يقف بجواره: "إن المكتبة ستُغطّي الجدار الأيمن كله، سيتم تركيبها خلال أيام، هل ثمة حاجة إلي مكتبة أخري في المواجهة؟". وكما ذكرنا فإن الردّ القريب ليس حاضراً. النظرة إلي البعيد تُسيطر، إنّ كل شيء يشير إلي أمر ما، إلي استحالة دوام الحال، إلي التبدّل السريع الذي يسم حيواتنا: "أتطلع إليه، هل يسألني أنا أم يستفسر من أجل القادم بعدي؟".