بينما يختلط الدم بالتراب، وتُسحق جثث الأطفال تحت الأنقاض، ويُمنع الهواء والغذاء عن شعب يختنق بلا صوت، ويتضرع جوعًا دون كسرة خبز، ويموت بحثًا عن قطرة ماء، يتجرأ الاحتلال الصهيونى على ازدراء لغة العدالة، وفى زمنٍ بات فيه الدفاع عن الضحايا «تحاملًا»، والصراخ من أجل العدالة «تحريضًا»، يصرّ القاتل على أن يرتدى ثوب الضحية، ويتقمّص دور المظلوم، ويتطاول بصفاقة على بريطانيا حين تتحرك - بعد صمت طويل - وتتخذ قرارًا بتجميد اتفاق تجاري، ومساءلة إسرائيل عن جرائمها! اتهمت حكومة نتنياهو بريطانيا ب»الهوس» و»معاداة إسرائيل»، واستدعت شبح الانتداب البريطاني، فى هروب فجّ إلى التاريخ، للتغطية على جرائم الحاضر، وكأن انتقاد المجازر جريمة، والدفاع عن الأطفال المحترقين فى غزة، تحاملٌ على دولة مسالمة! وتغافل الاحتلال أن العالم لم يعُد أسيرًا لروايته الأحادية، وأن دعم الغرب لإسرائيل لم يعد شيكًا على بياض، والقول بأن الضغط الخارجى «لن يُغيّر المسار الإسرائيلي» ليس سوى تحدٍ سافرٍ للقانون الدولي، واستفزازٍ متعمّد لضمير العالم، لكن الزمن تغيّر، والأصوات التى كانت خافتة بدأت ترتفع، والمجتمعات الغربية بدأت تحاسب حكوماتها على صمتها.. لم تكن حكومة بريطانيا وحدها التى أعلنت أن معاناة الأطفال فى غزة «»لا تُحتمل»، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدى أمام سياسات إسرائيل التى تفتك بالمدنيين، وتغذّى عنف المستوطنين، وتدمر فرص السلام، بل انضمت إليها فرنسا وكندا، فى مواقف تعبّر عن تحوّل تدريجى فى مزاج الغرب، الذى بدأ يضيق ذرعًا بالابتزاز الإسرائيلى الأخلاقي، وليس غريبًا أن تهاجم إسرائيل بريطانياوفرنسا وكندا، فهي- تتناسي- أن الدماء لا تُغسل بالإنكار، وأن الألم لا يُكذَّب بالصراخ، وأن العالم لم يعد يرى بعيون دعايتها، والردّ الإسرائيلى لم يكن سوى نموذجٍ فجّ من الاستخفاف الدولي، ممزوج بالوقاحة والإنكار، وصرخة هستيرية لنظامٍ أدمن الإفلات من العقاب، تكشف مدى الاستعلاء والغطرسة التى تعترى العقل السياسى فى تل أبيب. إن ما قالته بريطانيا على لسان قادتها ليس «هوسًا» بمعاداة إسرائيل، بل هوسٌ بالعدالة التى آن لها أن تُستعاد، وصحوة -تأخرت كثيرًا- أمام مشاهد تُدين الضمير العالمي، وتضع إسرائيل تحت حصار الحقيقة، وحين تصرخ فى وجه الحقيقة، وتصفها ب»الهوس»، فإنها تعترف ضمنيًّا بعجزها فى الدفاع عن نفسها، ومهما تعالت أكاذيبها، فالحقيقة الأشد إيلامًا التى لا يمكن إنكارها، هى أن العالم بات يكرهها ويبغض جرائمها.