لم يعد في غزة ما يُقصف سوى ما تبقى من الأرواح. المدينة التي كانت يومًا تعج بالحياة، باتت اليوم مقبرة مفتوحة، حيث لا ملجأ، ولا مستشفى، ولا حي آمن. كل شيء تحت القصف: البشر والحجر، الأطفال الرضع، الأمهات الحوامل، العجائز، المرضى… حتى الأشجار لم تسلم. غزة تحولت إلى متاهة من الموت، لا خروج منها ولا أمل، وسط عالم يراقب بصمتٍ بارد، ومنظمات دولية عاجزة عن قول الحقيقة، أو ربما متواطئة بصمتها. ستة عشر شهرًا من الإبادة المستمرة. آلاف القتلى والجرحى، عائلات أُبيدت بالكامل، أحياء استوت بالأرض، مدينة تُمحى أمام أعين العالم. لم تعد هذه حربًا، بل جريمة إبادة مكتملة الأركان. القاتل معروف، والضحايا معروفون، والمجتمع الدولي اختار أن يكون شاهد زور. القانون الدولي أصبح عاجزًا، المؤسسات الأممية فقدت تأثيرها، ومجلس الأمن لا يُصدر سوى بيانات جوفاء تُجهضها واشنطن قبل أن تصل إلى الطاولة. أما محكمة العدل الدولية، التي يُفترض أن تُحقق العدالة، فتواجه تحديًا صارخًا مع انسحاب المجر بالتزامن مع زيارة رئيس وزراء الاحتلال، في موقف يُشرعن الإفلات من العقاب ويمنح إسرائيل مزيدًا من الغطاء لجرائمها. إسرائيل تمارس القتل بدمٍ بارد، غير عابئة بقوانين أو اتفاقيات. بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، يدرك أن لا أحد سيحاسبه، وأن واشنطن ستظل توفر ما يلزم من حماية. وبينما تتكدس جثث الأطفال في مستشفيات، يخرج دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الحالي، ليؤكد دعمه المطلق لإسرائيل، معتبرًا ما تفعله في غزة "حقًا مشروعًا في الدفاع عن النفس". هكذا، تتحول الجرائم إلى "إجراءات أمنية"، والإبادة الجماعية إلى "ضرورة عسكرية"، بينما العالم الحر، الذي طالما تشدق بحقوق الإنسان، يكتفي بالمشاهدة، وكأن ما يحدث أمرٌ عابر. أما رفح، المدينة التي كانت ملجأً للنازحين، فقد تحولت إلى ساحة دمار شامل. ما يجري هناك ليس مجرد عمليات عسكرية، بل خطة ممنهجة لمحو المدينة من الوجود، وتهجير سكانها قسرًا تحت وابل القذائف. آلاف النازحين يبحثون عن مأوى، ولا ملجأ إلا الموت، بينما العالم يوثق الجرائم بالكاميرات، دون أن يجرؤ على إيقافها. وسط هذا الجحيم، تقف مصر وحدها في مواجهة الصمت الدولي، تبذل كل ما في وسعها لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية التي يحتاجها سكان غزة للبقاء على قيد الحياة. القاهرة لم تتوقف عن محاولة فرض حل، رغم العرقلة الإسرائيلية المستمرة، مدركة أن الزمن ليس في صالح المدنيين العزل، وأن كل يوم في هذه الحرب يعني مزيدًا من القتل والدمار. لكن حتى هذه الجهود تصطدم بحائط من التعنت الإسرائيلي، الذي يراوغ، يماطل، ويواصل عدوانه وكأن غزة أرض بلا بشر. العالم لا يحتاج إلى بيانات إدانة جديدة، فقد أصبحت بلا قيمة. ما يحتاجه هو أفعال حقيقية تضع حدًا لهذه المجزرة: محاسبة مرتكبي جرائم الحرب، فرض عقوبات صارمة على إسرائيل، إنهاء الدعم الأمريكي غير المشروط، وإجبار الاحتلال على احترام القانون الدولي. لكن ما يحدث الآن هو العكس تمامًا: إفلات كامل من العقاب، وصمت دولي يُترجم إلى موافقة ضمنية، وانهيار أخلاقي يجعل من القيم الإنسانية مجرد شعارات فارغة. غزة اليوم تصرخ وحدها، تقاتل من أجل الحياة، تُسحق تحت أنقاضها بينما العالم يدير ظهره. المشاهد في غزة ليست مجرد لقطات عابرة، بل شهادات دامغة على سقوط المنظومة الدولية، وامتحان فشلت فيه الإنسانية مجددًا. في هذه المتاهة المظلمة، لا تزال غزة تسأل: هل بقي في العالم ذرة إنسانية؟ أو بعضٌ من الحياء؟ صمتم عن غزة وما يجري فيها من جرائم ممنهجة، فكان طبيعيًا أن يخرج عليكم ترامب بقراراته الاقتصادية وغيرها التي تهدد بانهيارات وأزمات كبرى. مات ضمائركم مرات في غزة، فلا تندهشوا إذا تكررت المأساة في أماكن أخرى، بصيغ مختلفة ولكن بروح الجريمة ذاتها.