طلب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من أعوانه أعضاء مجلس قيادة الثورة الاتصال بأكبر عدد من المثقفين المصريين ليساهموا بآرائهم في صياغة أفكار»الميثاق« قبل صياغته. وفي حواره مع الكاتب د. مصطفي عبدالغني مؤلف كتاب: »المثقفون وثورة يوليو«، الذي صدر مؤخراً قال الكاتب الكبير الراحل : أحمد بهاء الدين [ إنه يتصوّر أن من أسهم في كتابة الميثاق، وصنع أفكاره قبل صياغته، كانوا نحو500مثقف مصري. كل واحد منهم قال رأيه كتابة، أو شفاهة. في مجلس عام، أو في مكان مغلق. في تقرير مكتوب، أو بشكل شفاهي]. ويؤكد الأستاذ أحمد بهاء الدين في شهادته لدي الزميل د. مصطفي عبدالغني أن المناقشات كانت مفتوحة، وتتم بصراحة شديدة. وعن نفسه، أضاف »بهاء الدين« قائلاِ: [لم أكن أتردد في قول ما أريده بصراحة، و وضوح شديدين.. غير هياب ولا وجل، حتي إنني أذكر في إحدي المرات وكنت خارجاً من منزل عبدالحكيم عامر أني سمعت من يقول لي أظن أنه شقيقه حسن عامر متسائلاً، مندهشاً: [أنت مش خايف تتحدث بهذا الشكل؟]. ورد الأستاذ بهاء: [ إنه يسألني وأقول رأيي بصراحة]. ويضيف »بهاء« عن صياغةالميثاق قائلاً:[ ما كان يحدث لي ومعي، كان يحدث أيضاً مع غيري. فتوجيهات الرئيس عبدالناصر كانت واضحة: »اسألوا المثقفين والسياسيين«، فتجمعت لديه أفكار كثيرة وكتابات كثيرة، انتقي منها عبدالناصر فيما يبدو ما يريد، ثم دفع بها في نهاية الأمر إلي الأستاذ محمد حسنين هيكل ليكتبها في صياغتها الأخيرة]. ما جاء في شهادة أحمد بهاء الدين أن قيادة الثورة اهتمت، في البداية، بالمثقفين.. ثم تعاملت أكثر مع العمال والفلاحين: كيف؟ ولماذا؟ السؤال عن »حكاية الثورة مع المثقفين« طرحه د. مصطفي عبدالغني علي أحمد بهاء الدين الذي أجاب بأن الثورة حاولت منذ البداية الاتصال والاقتراب من المثقفين، غير أنه كان هناك ما يحول دون ذلك. ويضيف »بهاء« قائلاً: [عند قيام الثورة كنت كاتباً في »روزاليوسف« تعدي عمري العشرين، ومعارفي محدودة بالنسبة لمجموعة الضباط الأحرار، فمن هؤلاء الضباط؟ وماذا يريدون؟ وكيف يفكرون؟ أسئلة كثيرة لم تكن إجاباتها لدي. ولا يمكن لإنسان أن يسلم قيادته بسهولة لأناس لا يعرفهم، أو لا يعرف تاريخهم بشكل أدق. وكان الاستنتاج الأرجح الذي كان شائعاً في ذلك الوقت أنهم »كولونيلات« مثل أولئك الذين قاموا في المنطقة ولعبوا أدواراً ما، من أمثال السوريين: حسني الزعيم، الحناوي، الشيشيكلي. هؤلاء الضباط يقومون في الغالب آنذاك بانقلابات عسكرية. الأكثر من ذلك أن هؤلاء جاءت بهم أمريكا.. كما قيل وتردد في حينه. المهم أن هذا كله كان لا يخرج عن شكوك. وكانت هذه الشكوك في حكم القائم، والمحرك، لأفكار المثقفين.. في الوقت الذي تحددت فيه صورة المثقف عند الضباط الأحرار من خلال عدد كبير من المثقفين السياسيين القدامي،الوصوليين، الانتهازيين، واليمينيين. رأي الضباط منهم نفاقاً، ووصولية، و تصفية حسابات. اللوحة كانت قاتمة أمامهم بشكل عام. وكان الضباط الجدد مندهشين، ويتساءلون: ما هذا؟ هل هؤلاء هم المثقفون؟ وإذا كانوا كذلك.. فماذا يفعلون؟]. »ونواصل غداً« وإذا كان الأستاذ بهاء من أكثر المثقفين المؤيدين للثورة، إلا أنه كان في الوقت نفسه من أشد المعارضين لأخطائها. وأبرز مثال علي ذلك موقفه الناقد، المندد، عقب هزيمة 67 والبيان العنيف الذي وقع عليه باعتباره نقيب الصحفيين آنذاك. في كتاب:»المثقفون وثورة يوليو« سأل المؤلف د. مصطفي عبدالغني الأستاذ أحمد بهاء الدين عن سبب عدم القبض عليه بعد أحداث 1968علي أثر بيان نقابة الصحفيين؟ فأجاب »بهاء«: [لم أكن عضواً في تنظيم ولكن كان لي رأي فقط. كان يقبض دائماً علي من ينتمي إلي أي تنظيم أو خلية. وأعتقد أن الثورة وعبدالناصر تحديداً لم تكن لديه مشكلة إزاء إبداء الرأي وأستطيع أن أؤكد أنه لم يكن يتم القبض علي صحفي بسبب رأيه بل كان يتم القبض علي الخلية التنظيمية مثلاً]. هناك بالطبع من يعارض رأي الأستاذ بهاء، ويؤكد أن العديد من المثقفين والصحفيين قبض عليهم وقتذاك بسبب آراء معارضة أعلنوها، ومقالات نقد كتبوها. وعلي كل .. نعود لنتابع شهادة »بهاء«، التي جاء فيها أن الرئيس عبدالناصر كان غاضباً جداً بسبب البيان الذي أصدرته نقابة الصحفيين. وفي لقاء بين عبدالناصر والسفير السوري في يوغوسلافيا آنذاك سامي الدروبي قال عبدالناصر: »أنا مكنتش متوقع من صاحبك بهاء يعمل كده. البيان اللي طلعه كان طعنة خنجر في ليلة مظلمة. وإحنا كلمنا كل النقابات ألا يعملوا اضطرابات ومع ذلك راح صاحبك وأصدر بياناً عنيفاً«. حاول السوري سامي الدروبي أن يؤكد حب وإخلاص بهاء الدين لعبدالناصر وللثورة، فأشار إلي أن البيان بكل ما فيه صدر بعد ذلك في بيان30 مارس الذي أصدرته حكومة الثورة. ورد عبدالناصر:»بهاء ما كنش عارف إللي إحنا عارفينه. المظاهرات كانت مستمرة. معني ذلك أن تقع الثورة في أيد أجنبية. وكأن هذا كان يريد اسقاط نظام الحكم القائم. والخلاف في قمة السلطة معناه أن ينزل الجيش حتي يضغط ويطلق النار في المليان لقمع الفتنة. وبهاء طلع البيان في الليلة اللي كان الجيش فيها علي وشك أن ينزل وينهي الفتنة.. تصوّر؟!«. ويختتم عبدالناصر كلامه للدبلوماسي السوري قائلاً: [وقتذاك.. قدمت لي مذكرة للموافقة علي إلقاء القبض علي أحمد بهاء الدين، وأنا رفضت. وقلت لهم إن البيان شيء في الوقت الذي نعيش فيه، ويمكن أن يجرنا إلي مشكلات كثيرة، لكن إحنا عارفينه يقصد »بهاء« هو رأيه كده. و مخه كده]. .. وهكذا أنقذ »بهاء« من دخول المعتقل.