ذكرياتي عن الشهر الفضيل دائما ممتعة منذ أيام الطفولة والصبا حتي أيام الشباب وما بعدها عندما لم يبق في العمر أكثر مما مضي; وحتي عندما كتب علينا القتال في شهر رمضان كان الصفاء غالبا علي جميع الرفاق حتي عندما بدت النهاية أقرب من حبل الوريد. وما بين فوانيس رمضان وحتي أيام السهر حتي صلاة الفجر لمناقشة قضايا الدنيا المعقدة فقد كان فيها متعة خاصة, ولا أدري شخصيا عما إذا كان الطعام هو الذي يتغير أم أن قدرتنا علي استطعامه هي التي تغيرت. وبشكل ما فإن التعامل مع الصيام وما تلاه لا يمكن أن يكون حالة فردية حيث يصير حالة من التبادل مع الآخرين, ومع الكون والطبيعة, وساعات الشروق والغروب وتبدل الأحوال بين النهار والليل. ولكن يجب أن أعترف حتي منذ الطفولة أن أمرا ما كان منغصا علي الدوام, ومنذ قرابة خمسة وخمسين عاما عندما بدأت الصيام لأول مرة كان هناك نوع من التقريع طوال الوقت, وهو أن شهر رمضان ينتهي بنا إلي زيادة كبيرة في استهلاك الغذاء بدلا من نقصانه, وزيادة أكثر في المتعة والاسترخاء رغم أن الشهر الكريم جاء لكي يعلم الناس التقشف والزهد. ورغم تكرار التقريع والتأنيب, والخطب المنبرية التي تعنف الناس علي ما يقومون به من إسراف, وتنهد الحكومة لأنها لا تدري ماذا تفعل مع شهر رمضان لأن إنفاق شهر واحد يكاد يساوي إنفاق كل شهور السنة, وميزانية الإذاعة والتليفزيون خلال ثلاثين يوما من الأيام الفضيلة تكاد توازي ما ينفق علي عام. والشكوي أيضا تأتي علقما لأن الصيام عن الطعام والشراب ينتهي دائما إلي ما يمكن تسميته صيام عن العمل, لدرجة أن البعض منا يعتبر الشهر الفضيل بمثابة إجازة سنوية. وقد أدي ذلك إلي تحول الممارسات الحادثة في رمضان من عبادات دينية إلي عادات اجتماعية, وهو ما يمكن تأكيده من خلال تقلص ساعات العمل في رمضان في جميع المصالح الحكومية. وفي المؤسسات التعليمية والأكاديمية, أما البنوك فهي تعمل من التاسعة صباحا حتي الثانية بعد الظهر. كما قررت إدارة البورصة المصرية أن تكون مواعيد التعاملات وجلسات التداول خلال رمضان ما بين العاشرة والنصف صباحا والثانية والربع ظهرا. وبالفعل فإن هناك ظواهر لا تخطئها العين مثل تزويغ الموظفين أو العاملين في الجهاز الإداري للدولة قبل نهاية مواعيد العمل الرسمية تحسبا لظروف الطريق غير المضمونة أو رغبة أغلبية النساء العاملات في تحضير طعام الإفطار. ورغم أن هناك تقديرات غير رسمية تشير إلي ضعف إنتاجية العامل والموظف المصري ليس في رمضان فحسب وإنما علي مدار العام, لكنها تزداد بدرجة أكبر خلال هذا الشهر. وإذا ما أضفنا إلي هذه الحالة من الامتناع عن العمل حالة من الاسترخاء تظهر في تزايد نسب مشاهدة التليفزيون حيث يحظي شهر رمضان بأعلي نسب مشاهدة مقارنة ببقية الشهور, الأمر الذي يفسر أسباب رغبة المنتجين والمخرجين والممثلين والإعلاميين في عرض أعمالهم وبرامجهم في هذا التوقيت التي بلغت ما يقرب من86 مسلسلا, ويتم عرضها علي قنوات فضائية مصرية وعربية وخليجية عديدة. ووفقا لتقرير حديث بعنوان التليفزيون المصري..مسيرة خمسين عاما أصدره مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء فإن69.8% من الأسر المصرية تمتلك أجهزة استقبال القنوات الفضائية حتي يناير2010 بعد أن كانت48.3% في مايو2008, وأن88.3% من الأسر تمتلك أجهزة تليفزيون. وقد بلغ عدد القنوات التليفزيونية التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون23 قناة تتنوع ما بين البث الأرضي والفضائي. كما أن هناك ما يقترب من690 قناة مصرية وغير مصرية تبث عبر الأقمار الصناعية. إن مشاهدة المصريين لكل تلك القنوات يتطلب منهم الاسترخاء التام عبر التحكم في زر الريموت, وفي الوقت الذي كان التليفزيون المصري يستهل إرساله بقناة واحدة في يوليو1960 بمتوسط إرسال يومي بلغ حوالي خمس ساعات تبدأ في السابعة مساء وتمتد إلي منتصف الليل, ثم ارتفع معدل ساعات الإرسال ليصل إلي13 ساعة يوميا بعد بدء إرسال القناة الثانية في يوليو1961, ثم ازدادت ساعات البث بعد بروز القنوات الإقليمية, ولم تكن المسلسلات المعروضة حينذاك تتجاوز أصابع اليد الواحدة. الحالة هكذا مزعجة للغاية خاصة عندما يأخذ اللوم والتقريع منحي آخر عندما يقضي بعضنا نهار رمضان في نوم عميق, مما يفقد الصيام معناه القائم علي التعامل السمح مع الحرمان. ولكن مثل هذه السماحة لا تتوافر عادة وإنما يحل محلها الشكوي من قلة النوم, حيث يرتبط رمضان في أذهان البعض بالسهر ليلا والنوم نهارا, وهو ما يعود إلي التغيير المفاجئ في مواعيد الاستيقاظ والنوم وما يصاحبه من تغيرات عضوية فسيولوجية في الجسم وتغير النمط الغذائي من حيث الكمية والنوعية والتوقيت أو رداءة نوعية النوم أثناء ساعات النهار مقارنة بالليل أو الارتفاع النسبي في درجة حرارة الجسم خلال فترة النهار أو إفراز الجسم لهرمون الميلاتونين الذي يدفع الإنسان إلي الإحساس بالرغبة في النوم, فيما يحدث تحولات لم تعتدها الساعة البيولوجية التي تقوم بضبط المواعيد مما يجعل الصائم يستيقظ تلقائيا. ويمضي هذا المنطق قائلا إن الدخول في رمضان يمثل دورة معاكسة للساعة الحيوية للجسم, وهو ما يؤدي إلي تعكر المزاج العام وزيادة الخمول والصداع خلال فترات النهار. وعلي جانب آخر, هناك اتجاه رئيسي في الأبحاث والدراسات ذات الثقة يشير إلي أن الصيام في حد ذاته ليس سببا لقلة أو زيادة معدلات النوم وإنما يتعلق بنمط الحياة المتبع ومنه طريقة النوم أو ما يعرف بالنسق السليم للنوم الصحي. والأمر هو أن هناك مشكلة أزلية تتعلق بكيفية إدارة الوقت لدي غالبية شرائح المجتمع المصري, وشهر رمضان جزء منها. المسألة هكذا تفسد متعة الشهر المعظم, وتلقي عليه من الأعباء ما ليس موجودا فيه, والأخطر أنها تكاد تخفي وجها آخر للصورة يضيع تماما خلال عملية التقريع والتأنيب, وفي أغلب الأحيان لا يشار له مطلقا. وأولها بالطبع معروف, وهو أن الغالبية الساحقة من المواطنين تعمل بجد خلال الشهر وإلا توقفت عجلة الحياة المصرية عن الدوران; وما يشار له من كسل واسترخاء يرتبط عادة بالعاملين في الحكومة أو القطاع العام, أما العاملون في القطاع الخاص فإنهم فضلا عن ثواب الصوم فإنهم يضيفون له ثواب العمل أيضا, خاصة أن أصحاب الأعمال لن يغامروا بخسران مبين إذا ما تغلبت المتعة علي الكفاح. وللموضوع بعد آخر هو أن شهر رمضان يمثل فرصة هائلة للاستثمارات لن تكون واضحة للعيان ما لم ننظر إلي بعده العالمي. وربما كان أول من لفت النظر للظاهرة هو التواجد في الولاياتالمتحدة وعواصم غربية أخري خلال شهر ديسمبر من كل عام حيث تحدث نفس الظاهرة الرمضانية بسبب أعياد الميلاد. ولمن لا يعرف فإن هذا الشهر يكاد يكلف نفس الإحصائيات من حيث معدلات الاستهلاك والسهر التي نشير لها في شهر رمضان, والتي يقابلها تزايد في الاستثمارات لكي تقابل معدلات الاستهلاك العالية. فلما كانت السوق في جوهرها عرضا وطلبا, فإن تزايد الطلب لا يعد في حد ذاته نقمة, بل إنه في معظم بلدان العالم يعد نعمة, وإشارة علي تزايد مستويات المعيشة, وفتح الباب لأرزاق واسعة تعطي للناس مأكلا وملبسا ومتعة مادامت شريفة وطاهرة فإنها تعد من الطيبات. وبنفس الطريقة فإن الشكوي الأخيرة من تزايد استهلاك الكهرباء بسبب ارتفاع أعداد أجهزة التكييف من نحو165 ألفا عام1996 إلي ثلاثة ملايين جهاز تكييف عام2009 قد تكون مصدرا للاحتفال في مجتمعات أخري لأنها تعطي الفرصة لمصانع أجهزة التكييف لتشغيل أفضل للعمالة, وتعطي للحكومة المقدمة لخدمة الكهرباء فرصة لزيادة مواردها, وفي العموم تقدم دليلا آخر علي اتساع حجم الطبقة الوسطي خلال العقد الأخير. والعقدة هنا هي كيف يكون رمضان فرصة وليس مخاطرة, وإذا كانت الصين قد وجدت في الشهر الكريم وهي الدولة الشيوعية فرصة لصناعة فوانيس رمضان والتجديد والإضافة إليها حتي تتمشي مع أذواق الأجيال الجديدة, فإن شهر رمضان, ومعه أيام العيد, تفتح أبوابا واسعة للاستثمار والاستجابة لطلب متزايد. وإذا كان رجال ونساء الفن بأشكاله المختلفة قد استجابوا لذلك بأعداد هائلة من المسلسلات فإن التنغيص علي الناس بأنه لا يوجد لديهم الوقت لاستيعاب هذا العدد الهائل يبدو فيه تجاوز كبير لأن الكثرة بسبب تنافس الدول العربية وهي فضيلة في حد ذاتها, والاستجابة لأذواق متعددة وهي فضيلة أخري ترفض احتكار أذواق الناس في اتجاه واحد, وهي واحدة من سمات الديمقراطية والتنوع. بقي أمر كثيرا ما ننساه وسط نوبات التقريع والتأنيب, واكتشفته أثناء تواجدي الأخير في الولاياتالمتحدة حينما استمعت إلي أحد المتعصبين ينتقد المسلمين بأنهم من أصحاب الديانات العابسة, وتحدي المستمعين الذين انتقدوه أن يجدوا مسلما واحدا مبتسما أو مسرورا أو شاعرا بالسعادة راجعا بذلك كذبا إلي الدين الإسلامي الحنيف. وساعتها قلت لنفسي ضمن ما قلت إن الرجل لم يشاهد المسلمين في شهر رمضان حيث السعادة والحبور مع الصيام والعبادات هي جزء من الحياة اليومية. من فضلكم دام فضلكم ارفعوا التأنيب والتقريع عن الناس, فلا بأس من السرور والسعادة شهرا واحدا في العام. *نقلا عن صحيفة الأهرام