في رمضان تتداعي الذكريات.. ولست أدري لماذا؟ لعله سحر لياله.. لعله هذا الرفيق العذب الذي يشمل الروح فتنطلق في آفاق واسعة تجمع العمر من أوله، وتلم الطفولة والصبا والفتوة والشباب والرجولة في سجل واحد، لعله نسمة من النسمات الحلوة التي تشمل النفس ولا تجد لها موعداً أحب ولا أعز من موعد الشهر الكريم الذي تخف فيه الاثام، ويتقارب ما بين الأرض والسماء، ويذكر الناس أكثر ما يذكرون، ربهم بارئ الارض والسماء. وذكريات رمضان تاريخ يجمع التقاليد والتراث، ويزدحم بالكثير من العادات، بعضها يرجع إلي الدين وأكثرها يرجع إلي الإضافات التي ملأ بها بعض الحكام المسلمين هذا الشهر الكريم لتجميله، ولتجعل له طابعاً يستهوي الناس، فيحتفلون به احتفالا عظيما. ولعل الدولة الفاطمية التي حكمت، دهراً طويلاً هي التي اضافت إلي الاحتفال برمضان رونقاً وبهاء، وربما صنعت هذا لاسباب تتعلق بتوطيد ملكها، واستهواء الناس إلي تأييدها، وأيا كانت الأسباب، فإليها يرجع ما أصبح لرمضان في بلادنا وغيرها من مراسم في الاحتفال، استقبالاً ووداعاً. لماذا يأكل الناس الياميش في رمضان، وليس في غيره من شهور السنة؟ ولا صلة للياميش بالدين الذي يدعو الي الكف عن الشهوات، والامساك عن الطعام في النهار، لماذا قمر الدين في رمضان وحده؟ لماذا الفوانيس في أيدي الاطفال وتجمعهم في الشوارع والحارات والأزقة وهم ينشدون ويغنون لماذا هذا وغيره، حتي لقد ثبت في أذهان الناس أن هذا الشهر الكريم لا يستقيم الا بها، كأنها بعض شعائره التي اوصي بها الدين!! ليس معروفاً لماذا دخلت هذه الاضافات واصبحت اليوم بعض شعائره الاساسية في الإحتفال بهذا الشهر الكريم. وقد اضفنا إليها من عدة سنوات قليلة فوازير رمضان، والمسلسلات الدينية وغير الدينية، وسوف تصبح - ان لم تكن اصبحت فعلا - بعض اللوازم أو الضرورات للإحتفال بهذا الشهر. ما أجمل الذكريات في شهر رمضان، كنت اسعي إلي قضاء لياليه الجميلة في حي الحسين، فأنا من عشاق هذا الحي العريق، وكنت من رواد قهوة الفيشاوي، التي كانت ملتقي الأدباء والشعرآء والفنانين، ونجوم السينما والمسرح، والصحفيين والنقاد. كانت هذه القهوة جزءاً من تاريخ مصر، تري علي جدرانها صور الزعماء امثال مصطفي كامل وسعد زغلول ومصطفي النحاس، وفي أرجائها تشاهد التماثيل القديمة لبعض القادة المشهورين في التاريخ أمثال نابليون والخديوي إسماعيل ومحمد علي، وكان المشروب الشهير الذي تقدمه هو الشاي الأخضر بالنعناع، كما اشتهرت بتقديم الشيشة بكل انواعها، والاضواء فيها خافته تنبعث من السقف والاركان في غير نظام أو ترتيب، تجد فيها النجفة التركي والعربي، والكلوب ولمبة الجاز والنيون!! وكنت بعد أن أقضي سهرتي في قهوة الفيشاوي وبصحبتي بعض الاصدقاء، ننتقل جميعاً إلي أحد المطاعم الشعبية المعروفة لتناول السحور، والتي تقدم الفول والطعمية والزبادي، أو الكبدة والمخ أو النيفة أو الفطير أبو سكر، بعد ذلك نذهب الي قهوة الدراويش او المجاذيب وهو الإسم الذي اشتهرت به، ونقضي فيها بعض الوقت الممتع، نشاهد حلقات الذكر، ونستمع إلي الأناشيد الدينية، ثم نختتم سهرتنا بصلاة الفجر في مسجد الحسين. هذه هي بعض الذكريات التي طافت بخاطري في شهر رمضان، فهل استطيع أن احققها الآن، لقد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً دون أن اقضي ليلة رمضانية واحدة، في هذا الحي الساحر، القريب إلي نفسي وروحي، إن الوصول اليه في هذا الزحام الشديد اصبح مغامرة تحتاج إلي أعصاب من حديد، واين أجد المكان الذي اقضي فيه سهرة واحدة من سهرات زمان الممتعة، لقد تغير كل شئ، قهوة الفيشاوي فقدت بهجتها بعد أن تحول جزء منها إلي مطعم، فقدت أيضا روادها القدامي من المشاهير، المطاعم التي إعتدت الذهاب اليها تدهورت الخدمات فيها، أصبح الطعام الذي تقدمه سيئاً ورديئاً. لقد تغيرت تماماً الصورة الجميلة التي عشناها في حي الحسين العريق في الشهر الكريم، كان التردد علي هذا الحي بالنسبة لي غذاء روحيا ودينيا وفكريا، لقد أفسد هذه الصورة الزحام الخانق، والإهمال والتلوث وطغيان المادة والجشع والاستهتار.. ولا يسعني الا ان اقول وأنا حزين.. رحم الله أيام زمان!!