مأساة هي حقا ما يتعرض له اليوم آلاف الباكستانيين الفارين من وادي سوات الذي تحول الي وادي للموت خلال الأيام القليلة الماضية فبعد سنوات من الغفوة المتعمدة استيقظت إسلام أباد علي خبر استيلاء حركة طالبان علي مدينة بونير علي بعد مائة كيلومتر من العاصمة لتستكمل بذلك مخططها الذي بدأته في ربيع عام2007 عندما فرضت سيطرتها علي الوادي الذي يعتبر جزءا من إقليم الحدود الشمالي الغربي ليكون بمثابة المعقل الرئيسي للحركة و نقطة الانطلاق لبسط نفوذها علي باقي مدن الإقليم ومنه الي باقي الأراضي الباكستانية. وتحت دعوي فرض الشريعة الإسلامية وعلي غرار ما فعل إخوانهم من حركة طالبان في أفغانستان عمد مجاهدي طالبان باكستان علي نشر الرعب والفزع و اخذوا يحكمون ويتحكمون في المواطنين متجاهلين سيادة الحكومة المركزية التي أخطأت هي أيضا الحسابات عندما تصورت أو توهمت- من ناحية- ان سياسة المهادنة كفيلة بحل مشكلة هؤلاء المتشددين كما أنها-من ناحية أخري- لم تكن تريد ان تشغل انتباها بعيدا عما تعتبره الخطر الحقيقي والرئيسي والمتمثل في تلك العداوة التاريخية مع الهند جارتها النووية. فهل كان من الضروري ان يستيقظ الناس ذات يوما ليجدوا هؤلاء المتمردين الإسلاميين علي بعد مائة كيلومتر من العاصمة لكي تستفيق الحكومة وتتخذ قرارها بالقضاء عليهم؟ وهل فهمت إسلام أباد أخيرا ان الخطر داهم وان هؤلاء الطلبة ومن يقف وراءهم من تنظيم القاعدة لن يهدأوا بالا قبل الفوز بهذا البلد الإسلامي الوحيد الذي يمتلك قوة نووية؟ أم ان الحرب التي يقودها الجيش الباكستاني حاليا في وادي سوات ليست سوي عملية عسكرية تسبق اتفاق هدنة جديد سيتم توقيعه قريبا بين الجانبين علي غرار ما كان يحدث في السابق؟ آيا كانت الإجابة علي هذه التساؤلات فان الوضع يبدو هذه المرة مختلفا بعد ان بات واضحا ان أسلوب المهادنة التي تعاملت بها الحكومة الباكستانية السابقة برئاسة الجنرال برويز مشرف ومن بعدها الحكومة الحالية برئاسة عاصف زرداري لم يؤد إلا الي تفاقم خطر حركة طالبان التي تحظي بدعم من القاعدة والتي استغلت اتفاق السلام الموقع مؤخرا بين السلطات المحلية والحركة برعاية صوفي محمد في إقليم ملاقند لتعزيز مواقعها ومد نفوذها حتي بونير التي تقع علي بعد110 كيلو مترات فقط من العاصمة إسلام أباد. علي اية حال فان هذه العمليات العسكرية المكثفة التي تشنها الحكومة الباكستانية علي مقاتلي طالبان في وادي سوات والمدن المجاورة لم تأت فقط ردا علي انتهاك حركة طالبان باكستان لاتفاق الهدنة الذي ينص علي تطبيق الشريعة الإسلامية في إقليم ملاقند في مقابل نزع أسلحة الحركة وهو الاتفاق الذي تم في منتصف شهر يناير الماضي إنما هي في حقيقة الأمر جاءت- أيضا- بعد ان استشعر الجميع في باكستان خطورة الوضع فحتي الأحزاب الدينية المقربة من طالبان لم تجد بدا من دق ناقوس الخطر وهو ما فعله رئيس حزب' جمعية أمة الإسلام' مولانا فازلار رحمن عندما حذر أمام البرلمان من انه' إذا استمر طالبان في التقدم بهذه الطريقة فأنهم سيطرقون قريبا أبواب إسلام أباد فمرتفعات' مرجالا' هي حاليا العائق الوحيد أمام تقدمهم نحو العاصمة الفيدرالية' أما محمود دوراني مستشار سابق بالأمن القومي الباكستاني فقد أشار الي حدوث تغيير في رؤية الباكستانيين لهؤلاء المتشددين ففي السابق كان هناك بعض الجنود الذين يرفضون قتالهم باعتبارهم أخوه لهم في الإسلام بل وكان الأهالي يتعاطفون معهم ضد الحكومة والجيش ويوفرون لهم ملاذا آمنا بعيدا عن أعين السلطات أما اليوم فعلي حد قوله' هناك نوع من الوعي القومي بخطورة هؤلاء فمع كل هذه الفظائع التي ترتكب علي أيديهم أصبح الناس يخافونهم وبدأوا يستيقظون كما ان عددا كبيرا من الباكستانيين يشعرون ان طالبان لن يكتفوا بالإقليم الغربي للبلاد'. وكان صوفي محمد الزعيم الديني لحركة تنفيذ شريعة محمد والذي أطلق سراحه من السجون الباكستانية في نهاية2008 قد سعي بكل الطرق من اجل ابرام اتفاق سلام يقضي بإقناع حركة طالبان باكستان بتسليم أسلحتها للسلطات في مقابل موافقة الحكومة الباكستانية علي تطبيق الشريعة الإسلامية في الإقليم.وهو الاتفاق الذي لم تلتزم طالبان ببنوده بل وقررت استغلال الهدنة كما كان يحذر البعض- من اجل إعادة بناء قوتها ومد نفوذها خارج معاقلها التقليدية بحجة ان الحكومة لم تطبق الشريعة وفقا للاتفاق في مدينة بيرن باعتبارها جزءا من إقليم مالاقند ورغم ان المباحثات قد أسفرت عن تعيين قاض للمحاكم الإسلامية إلا ان طالبان رفضت الاسم الذي اختارته السلطات بدعوي انه لم يتم استشارتها في أمره وطالبت بان يتم تعيين آخر بعد موافقة صوفي محمد عليه إلا ان الأمور بدأت تأخذ منحني تصادميا خاصة بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء عاصف زرداري مؤخرا الي واشنطن حيث دار اجتماع ثلاثي بينه وبين الرئيس الامريكي اوباما والرئيس الافغاني حامد كرازاي وهو الاجتماع الذي يري المراقبون انه تم خلاله الاتفاق علي ضرورة القضاء علي طالبان باكستان بعد ان أصبحت تمثل خطرا حقيقيا علي الحكومة المدنية الفيدرالية في اسلام اباد مما يعني إمكانية سقوط القوة النووية الباكستانية في أيدي المتشددين الإسلاميين وهو الأمر الذي لا يمكن ان تقبل به واشنطن أبدا. ورغم تأكيدات عاصف زرداري بان القوة النووية الباكستانية بعيه عن خطر طالبان وانه موزعة علي نقاط عديدة في البلاد إلا الولاياتالمتحدةالامريكية لم تكن من الممكن ان تقبل بأقل من تلك العمليات العسكرية الدائرة حاليا في وادي سوات بهدف القضاء علي طالبان أو- علي اقل تقدير- تحجيم خطرها حتي ولو كان الثمن حربا طاحنة سيروح ضحيتها المئات من المدنيين والاف المهجرين الذين أصبحوا اليوم بين قوسي رحي المتشددين الإسلاميين الذين لا يفكرون سوي في الاستيلاء علي السلطة والعسكريين الذين لا يبغون سوي تنفيذ مهمة تأخرت الحكومة طويلا في اتخاذ قرار بشأنها.