في أقل من 24 ساعة، ودعت أسرة "الأهرام" قمتين من قمم الصحافة والسياسة والفكر، غادرا الدنيا إلى رحاب الآخرة بعد مشوارين حافلين بالعطاء والتفوق الاستثنائي والقيمة السامقة التي لم يبلغها أحد في رحلتيهما. رحل الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة ورئيس تحرير مجلة السياسة الدولية الأسبق ظهر يوم الثلاثاء الماضي، وبعده بساعات غادر دنيانا عملاق الصحافة المصرية وقلمها المتفرد الأستاذ محمد حسنين هيكل صباح أمس الأول، الأربعاء، بعد أن سطرا صفحات ناصعة في التاريخ وبعد أن قدما لمصر والعرب والإنسانية ما لم يقدر الكثيرون على فعله. رغم الحزن الشخصي والعام على فقد الأستاذ هيكل عميد الصحافة المصرية ونجمها الساطع على مدى أكثر من سبعة عقود متتالية، إلا أن الرجل ترك ميراثاً مهنياً وشعلة لا تنطفئ من الإخلاص لمهنة الصحافة والاعتزاز بالانتماء إليها والمثابرة في محرابها دون كلل حتى الرمق الأخير. عاش هيكل لإعلاء قيمة المهنة التي ولد ليكون أحد فرسانها، وصاحب السبق في وضعها على خريطة الصحافة العالمية من خلال تجربة فريدة في "الأهرام" التي كانت محظوظة باختياره من جانب مجلس إدارتها قبل سبعين عاماً لإنقاذها من الإغلاق وطي صفحتها بعد تراكم الخسائر وضيق ملاكها من أعبائها، فما لبث أن ظهرت موهبته الإدارية ونبوغه الصحفي في ضخ إكسير الحياة في شرايينها من جديد ليقدم لنا تجربة فريدة في عبقرية الإدارة وفي الدفع بمؤسسة تصارع من أجل البقاء إلى مصاف الكبار في الصحافة الدولية. لم يكن نجاح الأستاذ سوى محصلة موهبة عريضة وعقل منفتح على التغيير المدروس والمنظم، والأكثر إبهارا ثقافته الإنسانية الواسعة التي وظفها لتصبح "الأهرام" صحيفة عابرة للقومية ونافذة حرة للفكر والثقافة وقبلهما الخبر والمعلومة المدققة حتى صارت الصحيفة قرينة لكلمة المصداقية والدقة، وهي قيمة أخرى لا يمكن الوصول إليها بسهولة ولا يمكن التفريط فيها ما لم يكن القائمون عليها لا يعلمون قيمة المهنة التي يحملون شرف العمل بها. ولم يفرط في سبيل السياسة في مهنة الصحافة، فكان وداعه من مصر والعرب والعالم على قدر قيمته ونبوغه وعبقريته. على خطى الأستاذ هيكل، كان بطرس غالي واحدا من قامات الجيل الذهبي في الصحافة المصرية ثم نجما لامعا في سماء الدبلوماسية المصرية، وعمل دكتور القانون الدولي إلى جانب "الأستاذ" وأسس معه مجلة السياسة الدولية قبل واحد وخمسين عاما، وقدم من خلالها نموذجا حيا على المزج بين الحرفية العالية والرصانة الأكاديمية قبل أن ينطلق في ميدان الدبلوماسية، قدرات فائقة لا تحدها حدود حتى كان صعوده إلى قمة الدبلوماسية العالمية أميناً عاماً للأمم المتحدة لفترة واحدة، ولم تتح له فرصة لتحقيق طموحاته بإصلاح المنظمة الدولية بعد أن دفع ثمن نزاهته واعتزازه بحياديته ورقيه الإنساني، لكنه كسب احترام العالم وعند وفاته نعى العالم كله في شخصه قيمة عظيمة أيضاً. في رحلتي هيكل وغالي بين الصحافة والسياسة درس في ارتقاء النابغين والشخصيات الاستثنائية مواقع المسئولية عندما تحتاج المواقع إلى من يكون جديرا بها ومن يضيف إليها لا أن يختصم منها، ومن يعلي من شأن الوطن في الداخل ويقدم صورة ناصعة عنه في الخارج لا من يهوي بصورته إلى الدرك الأسفل. ندعو الله أن يعوض مصر عن فقد هاتين الهامتين العالميتين وأن نعلم الجيل الحاضر قيمة العطاء للوطن والمثابرة والاجتهاد والبذل من أجل مستقبل أفضل مثلما كان الفقيدان الكبيران يسعيان إليه حثيثا في حياتهما. تعازينا للوطن… نقلا عن جريدة الأهرام