تتحدد السياسة الخارجية للدول المحورية في النظام الدولي، إلى حد كبير اليوم، في ضوء ما يجري على الساحة الداخلية في تلك الدول. فنظرة سريعة على ما يجري في العالم من شرقه إلى غربه تجد السياسة الداخلية تملك تأثيرا حقيقيا على تفاعلات المشهد الخارجي، وعندما تضطرب الأحوال الداخلية، مثلما حدث في مصر بعد ثورة يناير، ينال السياسة الخارجية نصيب وافر من الارتباك والتعثر، وعندما وقفت مصر على قدميها بعد ثورة 30 يونيو، واستعادت المؤسسات عافيتها من جديد عادت السياسة الخارجية إلى توازنها المفقود، وصارت أكثر تعبيرا عن المصلحة الوطنية. حالة الزخم في الداخل واستكمال خريطة الطريق بالاستعداد لانتخابات مجلس النواب بكل ما يحمله من مهام ثقيلة في المستقبل، وتشديد الرئيس على ضرورة وحدة الصف الوطني، والبعد عن الخلافات في تلك المرحلة وبناء تكتلات قوية، تتزامن معها تحركات رئاسية واعية ومحسوبة في الخارج تستمد من عبء المسئولية في الداخل حافزا لمزيد من إشاعة مناخ التفاؤل والمثابرة على الخروج بالبلاد من عنق الأزمات التي وقفت عائقا أمام مستقبل أفضل على مدى أربعة عقود مرت كئيبة على غالبية المصريين. يأتي ملف الإرهاب في مقدمة الملفات التي تقود مصر فيها تحركا إقليميا وتنسق على المستوى الدولي بحنكة تكتسب كل يوم احترام العالم الذي تنبهت بعض أطرافه إلى أن ما يجري في مصر من إرهاب على مدى 18 شهرا لا يمكن إغفاله أو تجاهله بعد أن وجهت حادثة المجلة الفرنسية شارلي إبدو الأنظار إلى مدى تغلغل التنظيمات الإرهابية في جسد الشرق الأوسط، وخروجها إلى الساحة الأوروبية بهدف إشاعة مزيد من الفوضى والتخريب والقتل.. ففي باريس تجمع رؤساء 50 دولة وخرج الملايين من الفرنسيين، وفي جميع أنحاء العالم للتنديد بعمليتين قام بهما 3 مسلحين وراح ضحيتهما 14 شخصا بينما لا يتحرك الضمير اليقظ للغرب وهو يرى المئات يمرون يوميا على مقصلة الموت في الشرق الأوسط والأدنى وفي نيجيريا على يد جماعة "بوكو حرام" والأخيرة أزهقت قبل أيام 2000 نفس في مجزرة رهيبة لم تلق ضجة عالمية مماثلة لما جرى في العاصمة الفرنسية. ألم يكن إرهاب الجماعات المتطرفة وفي مقدمتها جماعة الإخوان كافيا حتى يتوقف الغرب عن لعبة مساندة تجارة الدين، ولم يكن الدم المصري المراق في شوارعنا مبررا لهؤلاء حتى يعيدوا التفكير في مواقفهم، ولم يكن الدم السوري والليبي والعراقي ظاهرا لهم حتى يخرج قادتهم يدا بيد لوقف حمامات الدم التي انفجرت على إيقاع التمويل والتسليح الغربي للمتشددين والدمويين في المنطقة. تفتحت مظلة الحرب على الإرهاب ترعرعت جماعات فاشية.. بدعاوى حماية حقوق الإنسان والديمقراطية أغفل العالم المتحضر جرائم كثيرة واليوم يدفع بعض الأثمان المكلفة. كلمات التقدير والتوقير لمواقف الرئيس عبد الفتاح السيسي في صحف غربية خلال الأيام القليلة الماضية أثبتت جدارة اختيارات الشعب المصري بعد ثورته العظيمة في 30 يونيو 2013 ضد الفاشية الدينية وألقت الكرة في ملعب الولاياتالمتحدة وقادتها من أجل مراجعة حقيقية لمواقفهم والكف عن اللعبة المزدوجة في التعامل مع مصر، فنحن لا نعلم هل واشنطن تقف معنا ضد قوى الإرهاب والتطرف أم أنها تقف في المعسكر الآخر أملا في دمار أوسع وتخريب أكبر على غرار حربي العراقوسوريا؟! ومن المصادفات العجيبة التي صفعت السياسات الغربية الأسبوع الماضي، تزامن الزيارة المفاجئة للرئيس السيسي للكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وقبلها كانت دعوته الصادقة من فوق منبر الأزهر الشريف لتجديد الخطاب الديني وتنقيته من شوائب عالقة خسرت المسلمين الكثير على المستوى العالمي، مع حوادث الإرهاب في باريس والتي أكدت أن مصر تملك رصيدا حضاريا رائعا لا يباري، وأن، قيمها الدفينة تظهر ساعة الخطر وساعة تجمع أعدائها ضدها. وفي لقاءات السيسي مع رئيس المجلس اليهودي العالمي ومع بطريرك إثيوبيا ظهر للعالم ان الرجل يحمل من رسائل السلام والمحبة ما يكفي لأن يضع العالم الحر والشعوب المحبة للسلام يدها في يده لعلنا نصل جميعا إلى صيغة مثلى عن كيفية مواجهة الخطر الداهم. وتتواصل الجولات الخارجية للرئيس من منطلق مد يده للعالم الخارجي بروح التعاون والأخوة، فبعد زيارة الكويت الأخيرة يأتي الدور على محطة جديدة هي الإمارات بعد غد الأحد من أجل المشاركة في القمة العالمية للطاقة. وقد كانت زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للقاهرة قبل أيام أيضا بمثابة رسالة تؤكد أن الوجود المصري يعود إلى العراق وأن القيادة المصرية الحالية تدرك خطورة نظرية ملء الفراغ التي طبقتها تركيا وإيران في غياب العرب بعد الغزو الأمريكي عام 2003. ففي التواصل من جديد مداواة لآثار الفتور في علاقات أزلية بين شعبين كبيرين لا يمكنهما الابتعاد كثيرا حيث تركت الفجوة بينهما انقساما عربيا خطيرا نعاني منه كثيرا اليوم، والوفود المصرية تستعد للتوجه إلى العراق من أجل استعادة كامل العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية والمساهمة في عملية إعادة البناء وهي بوصلة مهمة سوف تتبعها عودة باقي العرب إلى بغداد. وقد برزت في محادثات العبادي في القاهرة مواقف مشتركة يمكن البناء عليها وأهمها ملف الأوضاع في سوريا وضرورة تدشين موقف عربي موحد قبل حوار موسكو بين مختلف الأطراف السورية. وتلوح في الأفق بشائر التوافق في المواقف بين مصر والسعودية والعراق، وهو ما سعى الرئيس السيسي إلى الوصول إليه، بشأن الأزمة السورية، وقد اعترفت الولاياتالمتحدة علنا بأنه لا يوجد سوى المسار السياسي لحل الأزمة وأنه لا يمكن استبعاد النظام السوري من معادلة الحل.. والكرة الآن في ملعب المعارضة السلمية في سوريا. في الجانب الآخر من الأزمة السورية، تبرز أهمية التوافق العربي على مواجهة شاملة مع تنظيم "داعش" الإرهابي حيث يظهر الموقف المصري السعودي العراقي مهما من أجل خلق نواة لموقف عربي من جميع "الدواعش" المستشرية في العالم العربي. وربما يسهم في خلق النواة الجديدة للتحرك المشترك أن المنطقة تشهد سقوطا لافتا ليس فقط لجماعات إرهاب تحت مظلة الإسلام بل لسطوة القوى الإقليمية الداعمة له أيضا، فالسيطرة التركية على الملف السوري تتهاوى مثلما تهاوت أحلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسقوط جماعة الإخوان في مصر وهو فشل جديد يضاف إلى إخفاقات الرجل وتعاسته من تبدد أحلام دولة الخلافة وعودة الإمبراطورية العثمانية، والتي كان يوظف لها شركاء الضلال في جماعة الإخوان وفروعها في كل الدول لعله يفوز بلقب الخليفة يوما، وعندما راح الحلم بعيدا فقد الرجل توازنه ورباطة جأشه ومازال يكابر في مواقفه بلا مبرر معقول.. فقد وقف أردوغان ومن معه في صف الفاشية الدينية على حساب الدولة المدنية العصرية في مصر ودول عربية أخرى فكان نصيبه الفشل بعد أن شارك في جرائم الجماعات المتطرفة وقدم مثالا عجيبا في معارضة الدولة المدنية في العالم العربي بينما يؤيد دولة الإخوان الدينية التي تنطق بكفر كل من يخالفها. وترسخ التحركات الأخيرة للرئيس السيسي على المستوى الخارجي ما سبق أن وعد به في بداية حكمه من أن مصر لن تسعى إلى بناء محاور أو أحلاف بل سوف تسعى إلى علاقات تعاون مع الجميع من أجل المصلحة الوطنية ومن أجل بناء الدولة المدنية الحديثة ومن أجل المستقبل يشارك السيسي في زيارته للإمارات في قمة الطاقة العالمية والتي سيكون المتحدث الرئيسي أمامها في لفتة جديدة تدل على عمق العلاقات مع الشقيقة الإمارات وعلى صدق دعمها لمصر وبعد قمة أبو ظبي يتوجه إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس السويسرية حيث يطرح رؤية المستقبل أمام أفضل عقول العالم وأهم المستثمرين ورجال الاقتصاد والمال والسياسة في المنتجع الشهير وهي خطوات مهمة قبل عقد المؤتمر الاقتصادي الكبير في مدينة شرم الشيخ في مارس المقبل. نعود إلى حيث بدأنا، فلم يكن للرئيس وفريق الدبلوماسية المصرية أن يحقق نجاحات في الخارج ما لم يكن هناك إنجاز على مستوى السياسات الداخلية وما لم تكن هناك مصارحة في مراجعة ملفات السياسة الخارجية تعيد لمصر دورها في الإقليم، وفي حسابات الدول الكبرى. فرغبة موسكو وبكين في إقامة شراكات استراتيجية لم تأت من فراغ، والدعم الخليجي للاقتصاد المصري لم يكن ليحدث لمجرد خروج جماعة الإخوان من الحكم وإنصات العواصم العربية للقاهرة في جهود إعادة تقويم حالة الأمن القومي العربي وبدء التعامل الشامل مع الأوضاع في العراقوسوريا وليبيا واليمن، ونظرة سريعة على ما جرى من دبلوماسية هادئة في ملف مياه النيل والزيارات الشعبية الإثيوبية إلى مصر ندرك أن هناك تغيرا نوعيا في السياسة المصرية يستند إلى رؤية وحسابات داخلية دقيقة وهو ما يجعلنا ننظر إلى أحداث الأسبوع الماضي في مصر وخارجها ونقول إنه كان بحق أسبوعا حافلا بالأحداث التي تعيد الثقة كاملة في توجهات الحكم ومصداقية الرئاسة وقناعات رئيس لا يحيد نظره عن المصلحة الوطنية. نقلا عن جريدة الأهرام