«كان عبد الستار قد لاحظ أنه بدأ يرتكب حماقة تجعله يعيد قراءة القصة مرة ثانية، لأنه أضحي ما أن يبدأ في قراءة القصة حتي يجد نفسه يتابع البطلة، ويتجاهل البطل، حتي إنه، وبشكل تلقائي، كان يقفز تلك الصفحات التي كان البطل فيها هو محور الحدث، وهو ما كان يجد فيه، وهو المحترف لقراءة القصص، خيانة من نوع ما». في مجموعته القصصية «رجل العواطف يمشي علي الحافة» «دار ملامح» لا يستخدم عبده جبير ضمير المتكلم إلا نادرًا جدًا، مع ذلك فإن الصوت الداخلي واضح في القصص الأربع والعشرين التي يضمها الكتاب، ومهما تعددت وتنوعت الشخصيات، بين كاتب وقارئ، فتاة أو زوجة، موظف أو لاعب كرة، فإن الأسئلة هي نفسها، تدور حول الوحدة والهواجس، والوقت الذي يمضي بينما الآمال والرغبات تتآكل ببطء. ينوّع المؤلف -ابن جيل السبعينيات - في القصص مجرّبًا ولاعبًا، لكنه لعب يتوقف عند الموضوعات لا الشكل، القصص جميعها تستخدم ضمير الغائب، عدد لا بأس به منها يبدأ بكلمة «كان» أو «كانت»، لكنا إزاء لغة ناصعة منضبطة دون زوائد، ندلف معها بسلاسة إلي عوالم الشخصيات، وهي عوالم تلامس واقعيتها جنونها، إذ تبحث سلوي - في قصة «القلب من الداخل»- عن عنوان غامض لوظيفة مجهولة، وفي الطريق تشاهد عملية تبديل ملابس المانيكان عبر فاترينة محل تجاري، تدخل المحل متهربة من الشاب الذي يلاحقها، وفي الداخل تبدو لها فكرة أن تتوظف بدلاً من المانيكان، تقف وراء الزجاج كل يوم مع ثوب جديد، يسخرون منها بالطبع وتغادرهم، تشرب كوبًا من العصير وتمشي بأقصي قوة هاربة من الشاب ومن همسات السخرية معًا، تحدث نفسها «عليّ أن أجهز نفسي بكذبة متقنة حتي تصدقها أمّي، وابتسمت: لن أقول لها إنني فشلت، سأقول لأمي بأن العنوان ضاع منّي»، نحن لا نفهم ابتسامتها تمامًا، ولا يقترح علينا المؤلف تعليلاً، وإنما يتركنا - كما في بقية القصص - عند تلك المسافة التي تختفي غرائبيتها بين السطور، وتلك المسافة واللمسة الغريبة، هي ما تنقل معظم الحكايات من الواقع إلي سياقها الفنّي. إن كثيرًا من أحداث القصص تصلح لأن تكون واقعية ورمزية معاً، لذا فإن مصطفي - في قصة زهرة واحدة في المدينة - يكتشف فجأة أنه أضاع آلته الموسيقية في مكان وزمان لا يعرفه، اكتشف ذلك في اللحظة نفسها التي اكتشف فيها «أن مشاعره، هذه المرة، لم تخنه، وأن حب ناتاشا قد تمكن منه لدرجة أنه لايزال يحس بطعمها في فمه»، ونعرف أن مصطفي كان حائرًا لا يدري إن كانت نظرتها تتيه به أم بعزفه المتقن، وهو عندما يتأكد من الأولي تضيع منه الثانية، لذا فإنه مشوش الفكر ربما « لأنه لم يأكل منذ الصباح »، وهو مثل سلوي في القصة السابقة يهرب من كل ذلك بأن يستمر في المشي خلال المدينة، هو مثل بقية الشخصيات معذّب بشكّ متّصل يحرمه التواؤم مع حياته، حتي إن بطل القصة التي تحمل المجموعة اسمها يذهب لتأدية دوره المسرحي، يستسلم للماكيير وهو يرسم علي وجهه ملامح هاملت، ولكن «بينك وبين نفسك، لا تحس أنك مقتنع بقيامك بدور رجل دنماركي مهما كانت عظمته»