حطت الطائرة في مطار واشنطون، نزل الركاب ووقف عمر مبهورا بما حوله، جلس برهة في انتظار وصول الحقائب، تذكر وجه أبيه المريض وهو يوصيه بعدم ترك الصلاة، وأهل قريته وهم يودعونه ويدعون له بالنجاح والتوفيق والعودة سالما، ليساعدهم في حل مشاكل قريتهم، حمل حقائبه وانطلق خارجا يبحث عن صديق له ليقله إلى حيث يقيم بعض شباب المهاجرين، أمضى ليلته الأولى بينهم وهو يتحدث عن آماله وطموحاته، ويستمع تارة أخرى إلى بعضهم يبثون إليه لواعج غربتهم وحنينهم إلى بلادهم. مر عام أتقن الشاب اللغة الإنجليزية بطلاقة حسده عليها بعض أصدقائه، عمل خلالها في أعمال متنوعة، وقدم أوراقه إلى كليات عديدة، فقبلته إحداها وكانت على مبعدة من مكان إقامته، ودع أصدقائه مصطنعا الحزن لفراقهم والفرحة تكاد تطير به، قرر أن يسكن في بيت متواضع للطلبة توفيرا للنفقات، وأرسل في يومه الأول رسالة إلى أبيه يعلمه فيها أنه سيبدأ دراساته العليا في العلوم السياسية، وذيل رسالته أنه لم ينس وعده له ولأهل القرية.
مرت أ عوام طويلة أنهى عمر خلالها دراسته وحصل على الدكتوراه،وشهد له أساتذة الجامعة بالذكاء الباهر فقد نال درجات عالية، واختاره أحد الأساتذة ليدرّس في نفس الجامعة بمرتب عال، تذكر وعده لأبيه بأن يعود بعد إنتهاء دراسته وهو يستمع إلى هذا العرض المغري، وأغمض عينيه مفكرا ثم هز رأسه موافقا وقد علت وجهه ابتسامة عريضة.
دأب خلال عمله في الجامعة على حضور كل الاحتفالات والمؤتمرات التي يدعى إليها بصفته أستاذا في الجامعة، وتعرف في إحداها على الدكتور هنري وهو أحد رجال السياسة المشهورين والمعروفين باهتمامهم بقضايا الشرق، وتعددت لقاءاتهما، وتوطدت صداقتهما، وتعددت المناقشات السياسية بينهما، وحرص فيها عمر بذكائه على عدم الوصول إلى خلاف معه في الرأي، ونصحه هنري ضاحكا في أحد لقاءاتهما بالزواج ورشح له أكثر من فتاة كن قد درسن بدورهن في أمريكا، فوعده عمر أن يفكر جديا بالزواج قبل أن تفوته الفرصة، ودعاه هنري ذات يوم لقضاء السهرة معه وبعض السياسيين من أصدقائه المقربين، فلبى الدعوة وهو يشعر بالسعادة من اهتمام هنري به، تعرف في تلك الحفلة على فتاة جميلة قدمها له صديقه الأمريكي وهو يغمز له بعينه، فقضى معظم الوقت معها يتحدثان في شتى المجالات، ونالت الفتاة إعجاب عمر بشخصيتها المتفتحة وذكائها المتوقد، تعددت لقاءاته بها وتعلق قلب عمر بها وعرض عليها الزواج فوافقت، أقاما حفلا صغيرا حرص عمر فيه على دعوة هنري وأصدقائه السياسين لحضور حفل زواجه.
وتوطدت أواصر الصداقة بين الرجلين، فكانا يقضيان معظم عطلات آخر الأسبوع معا، كل مع زوجته، وفي أحد تلك اللقاءات رشحه هنري السياسي الأمريكي المشهور ليتقلد منصب رئاسة الجمهورية في بلده، لمعت عيناه وهو يستمع مذهولا وأبدى موافقته دون تفكير، وقلبه يرفرف سعادة وفرحا، وسأله بلهفة: هل يمكن أن يحدث ذلك فعلا سيدي المستشار؟ قهقه الرجل وقال: طبعا يا صديقي. والانتخابات.. أعني كيف سينتخبني الناس وهم لا يعرفونني؟ وكان رد السياسي المحنّك: لا يهم من يصوت لمن في الانتخابات؛ بل المهم هو من يعد تلك الأصوات، وطبّق هذه القاعدة على جميع دول العالم تقريبا، وسكت قليلا ثم همس بعدها في أذنه قائلا: يجب قبل البدء في إجراءاتنا لتتقلد المنصب أن نمهد لك الطريق في بلدك، هز عمر رأسه موافقا، وصافح محدثه بقوة وهو يشد على يده قائلا: شكرا لك يا سيدي، سأكون دائما عند حسن ظنكم بي، ابتسم الرجل ابتسامة صغيرة وهو يقول باقتضاب: لنا لقاءات أخرى دكتور عمر.
امتلأت نشرات الأخبار وجرائد البلد التي قدم منها عمر بأخباره، وعن ترشحه لجوائز دولية عديدة، وتسابقت وسائل الإعلام لنشر أنباء عنه وعن إنجازاته ونبوغه وذكائه، وأذيع عن مقدمه إلى بلده في بداية السنة الجديدة، وقبيل سفره بأسبوعين استدعاه هنري لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معه، واشترط عليه القدوم دون زوجته، ولبى عمر الدعوة ووصل حسب موعده إلى مقر إقامة الرجل، استوقفه الحراس بعض الوقت، وخرج هنري إليه وقد ارتدى ملابس غير رسمية، معتذرا عن تعامل الحراس الفظ معه، وقال له هامسا وهو يبتعد به: سنذهب في رحلة بحرية إلى جزيرة بعيدة، سنكون أنا وأنت ومعنا حارسين فقط، هيا بنا.
انطلق اليخت يشق عباب البحر بسرعة قبل شروق الشمس، جلس عمر مفكرا وقد بدأ القلق يساوره: إلى أين يأخذني هذا الرجل المجنون، هل يريد بي شّرًا، وأغمض عينيه وهو يتخيل أباه وأهل قريته وقد ملوا انتظاره لسنوات وسنوات، هل هذا عقابي لتركي للصلاة، وعدم وفائي بوعودي؟ نظر إلى مرافقه خلسة فوجده يتحدث في الهاتف بعيدا عنه،أكمل حديثه في سره: لن أنطق بكلمة ما لم يتكلم هو أولا.. اقترب هنري منه وقد بدت على وجهه ابتسامة باهتة قائلا: لقد كدنا نصل إلى هدفنا، دقائق ونصل وستتبع تعليماتي التي سأقولها لك بحذافيرها عند نزولنا، هل فهمت دكتور عمر؟ رد عمر والقلق يعصف به: طبعا سيدي، هل عهدتني أعصي لك أمرا؟ وصل اليخت إلى مرسى الجزيرة، ترجل الرجلان يتبعهما الحارسان من بعيد، همس هنري لعمر: سنتجول في الجزيرة ونحن صامتَين، ولن توجه أي أسئلة إلا بعد مغادرتنا، ولن تتحدث مع مخلوق ممن ستراهم أبدا، هل فهمت؟ رد عمر بنفس الصوت الهامس المتوجس: حاضر يا سيدي كما تريد.
مشيا في اتجاه بعض الأشجار الباسقة واختفيا خلفها، وأشار هنري بيده على مبعدة نحو رجل يجلس وهو يلعب بالرمل تحت قدميه، يقبض على الرمل بيديه ثم يرميه في البحر بحركات مجنونة هيستيرية، دقق عمر النظر في ملامح الرجل، وفغر فاه دهشة، فهو يشبه صدام حسين إلى حد كبير، وقد ترهل وجهه وتغضنت ملامحه، مال برأسه نحو هنري ليسأله، إلا أنه نظر إليه محذرا وسار وهو يشير له أن يتبعه، عض عمر على نواجذه حانقا وهو يتبع الرجل بهدوء، استمرا في مشيتهما ربع ساعة صامتين يلحقهما من بعيد رجلا الحراسة، ووصلا إلى بعض الأشجار بغصونها المتشابكة، أشار السياسي لعمر بهدوء أن ينظر إلى حيث يشير وهو يضع أصبعه على شفتيه يحذره ألا يتكلم، تابعت عيناه إشارة مرافقه حيث كان هناك رجل يقف مستندا إلى شجرة وهو ينظر إلى السماء يحدث نفسه، أمعن النظر مليا وهو يفرك عينيه مندهشا فها هو حسني مبارك بلحمه وشحمه، ونفس قسمات وجهه المميزة.
ولم يجرؤ على مجرد التفكير في السؤال بل سار وراءه مذهولا، سارا متجهين إلى وجهة أخرى عشر دقائق، ليشير السياسي إليه من وراء تل صغير اختفيا وراءه إلى حيث كان هناك رجل يقفز كالمجنون وهو يقهقه بصوت عال، كادت مقلتاه تخرجان من محجريهما، فقد كان الرجل يشبه إلى حد كبير معمر القذافي، وقف عمر قليلا وهو يلتقط أنفاسه لاهثا، اقترب منه السياسي الأمريكي المخضرم يحثه على السير، تابعا سيرهما إلى أن وصلا إلى أكمة وقفا وراءها، تابع عمر بعينيه إلى حيث يشير مرافقه، رأى رجلا هزيلا وقد أمسك بكتاب يمزق أوراقه في عصبية ويرمي بها في الهواء ثم يجري وراءها كطفل صغير، دقق النظر في ملامحه ذاهلا فقد كان الرجل بن لادن بلحمه وشحمه حيا يرزق، أخذ السياسي بيد عمر وسار به بعيدا، ثم قال له هامسا: هل تعبت يا دكتور عمر؟.
ألا تريد أن ترى المزيد من الرؤساء العرب وكبار السياسيين الذين أعلن عن مقتلهم أو خرجوا من بلادهم؟ وأشار بيده إلى أحد الرجال يصرخ بصوت هستيري، كان الظواهري صديق بن لادن، أكملا سيرهما صامتين ووصلا إلى الطرف الآخر من الجزيرة، حيث رأى عمرا رجلا يشد شعر رأسه ويصفع وجهه بيديه، تذكره على الفور؛ إنه بن علي الذي أعلن عن هروبه عند اندلاع الثورة في تونس، وقيل إنه في السعودية، وغير بعيد عنه شاهد عمر رجلا يمشي دوائرا حول نفسه ملوحا بذراعيه في الهواء، كان الرجل علي صالح، ولمح عمر يده التي كان يحرص على إخفائها في وسائل الإعلام ولم تكن مصابة أو محترقة، نظر إلى مرافقه وهو لا يصدق عينيه، فهز هنري رأسه أن نعم هو بعينه، وهمس بصوت لايكاد يسمع: هيا بنا نعود.
سارا عائدين إلى اليخت صامتين كما جاءا، يلحقهما الحارسان من بعيد، أحس بالتعب والعطش وما أن صعدا إلى اليخت حتى ارتمى على أقرب كرسي وهو يقول هامسا: هل لي بكوب من الماء سيدي؟ شرب بعض الماء، وأطرق برأسه وهو يحدث نفسه، وانطلق اليخت بهما عائدين إلى جزيرة أخرى تبعد قليلا عن الجزيرة التي غادراها، وهبط به مرافقه وهو يبتسم نفس ابتسامته الباهتة مشيرا إلى قصر عظيم البنيان قائلا: سنقضي إجازتنا هنا دكتور عمر ولك أن تسألني الآن ما تريد، بلل عمر شفتيه بلسانه وابتلع ريقه قائلا: هل من رأيتهم هم من هم يا سيدي؟ أجابه بصوت فاتر: نعم يا دكتور عمر، أتوقع أن يكون سؤالك الثاني ماذا يفعلون هنا أليس كذلك؟ هز عمر رأسه وهو ينتظر الإجابة بلهفة، قال السياسي: هل كنت تتوقع يا دكتور عمر أن ندع أصدقاءنا دون حماية، وقد قاموا بكل ما طلب منهم بدقة، وقدموا لنا خدمات جليلة، أعتقد أنك من الذكاء لتدرك أنه من غير المعقول أن يصدق من هم أمثالك أن ندع من يطيعون أوامرنا نهبا لمن يثور عليهم في بلادهم، خاصة وهم يمتلكون المليارات التي أودعوها في بنوكنا، إننا دائما نحرص على حماية كل من يحمي مصالحنا ويطيع أوامرنا، وإلا فنهايته لن تكون هنا بل ستكون في مكان آخر، اغتيالا على يد مجهول.
سأل عمر: ولماذا أصيبوا جميعُهم بالجنون؟ أجاب هنري: هذا ما لم نفهمه؛ بعد أن يقضي الواحد منهم شهرا أو شهرين؛ نفاجأ به كما رأيت كلا منهم.. يا صديقي هناك دائما ثمنا لاختيارات المرء، صمت هنري قليلا ثم قال بلهجة متوعدة: والآن دكتور عمر هل أنت جاهز لاستلام منصبك الجديد؟ وأكمل بنفس اللهجة: هذا ما نتوقعه منك دكتور عمر، هل فهمتني جيدا؟ ولتعلم أنك طالما رأيتهم فسيكون من العسير ألا تقبل المنصب، سأتركك لتفكر وترتاح قليلا وأعود إليك بعد ساعة.
انصرف هنري بهدوء مخلفا عمر جالسا في إحدى حجرات القصر الجميل، أطرق مفكرا وهو يحدث نفسه: هل هذا معقول؟ هل هم أحياء؟ غير معقول! لكن لماذا لم يدعني أقترب منهم أو أتحدث إليهم؟ لعله وهم أو خيال.. لعله خدعة، لعلهم أشخاص يشبهونهم، غير معقول غير معقول، لا يمكن، دمعت عيناه وهو يتذكر أباه وأهل قريته، يتسائل بمرارة: ما الذي فعلته بنفسي؟ كيف سأواجههم؟ وضع رأسه بين يديه برهة، لن أستطيع التراجع الآن، فهم لن يتركوني حيا لئلا أكشف سر هذه الجزيرة، سأطيع كل أوامرهم وسأعيش رئيسا ملكا محصنا، وأتمتع بالسلطان والمال والجاه، هكذا قررت.. وليكن ما يكون.