برزت في السنوات الأخيرة رؤى عديدة ترى أن القومية العربية ولى زمانها، أكد هذا صعود التيار الإسلامي بمفاهيمه سياسياً وعلى أرض الواقع خاصة بعد ثورات الربيع العربي، فالناصريين في مصر وهم التيار الأكبر للقوميين العرب أخفقوا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتوارى حزب البعث العراقي، وبات حزب البعث السوري في طريقه للخفوت، وبين هنا وهناك تيارات قومية عربية تعاني حالة من الضعف.
لذا بات من الملح الآن وليس غداً، إعادة النظر في هذا التيار وفكره، لنجد وجوده في الشارع المصري صار جزءاً من التاريخ والذاكرة المرتبطة بشخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فبعد هزيمة 1967 ميلادية صدم المروجون للقومية العربية بالحدث، وسقطوا في بئر مظلم من الأوهام، ولم يستطيعوا أن يقدموا للجمهور دفقه من الأفكار تثير حماسه، وبوفاة جمال عبد الناصر فقدوا المناصر، ليبقى البعث هو حامل الهوية القومية العربية، لكن صراعات جناحيه العراقي والسوري، فضلاً عن انفصال دعواتها عن ملاحقة الواقع وتطوراته أحدث هذا انفصال جم ويود البعث داخل الدول التي يتولى السلطة بها، فلم يكن له في الشارع العربي وجود كبير.
هنا يمكن استدعاء محاضرة للمفكر القومي ساطع الحصري ألقيت في بغداد 1928 ميلادية تحت عنوان "العناصر المكونة للقومية العربية" فقد قدم اللغة والتاريخ على كل العناصر، فاللغة عنده آلة التفكير عند العربي تؤثر في عواطفه وميوله، وأعقب هذا بالاتصال الجغرافي، وجعل الدين في مؤخرة العوامل، هنا نجد أن تأخير الدين كعامل جعل هناك جفوة بين هذا التيار والتيارات الدينية من ناحية، وجاب مع الشارع العربي المتدين بطبعه. لكن محمد عابد الجابري المفكر المغربي الراحل نجده عبر سلسلة "نقد العقل العربي" – تكوين العقل العربي – بنية العقل العربي – العقل السياسي العربي، القيام بتحليل العقل العربي عبر دراسة المكونات والبني الثقافية واللغوية التي بدأت منذ عصر التدوين ثم انتقل إلى دراسة العقل السياسي ثم الأخلاقي، وهو مبتكر مصطلح العقل المستقيل، وهو ذلك العقل الذي يبتعد عن النقاش في القضايا الحضارية الكبرى وينتهي إلى أن العقل العربي بحاجة إلى إعادة الابتكار، وأخذ الإسلاميين على الجابري دراساته عن القرآن الكريم والتي رؤوا فيها مآخذ كثيرة.
غير أن الفيلسوف ذكي نجيب محمود كان أقرب في طرحه عبر كتاب "تجديد الفكر العربي" إلى الشارع على الرغم من رؤيته الفلسفية، لكن القوميين العرب لم يتبنوا هذا الطرح فظل محصوراً بين جنبات الدرس الفلسفي والنخب.
هنا يجب أن يراجع القوميين العرب أنفسهم سواء على المستوى الفكري أو مستوى الشارع العربي، فالفكر القومي العربي بحاجة إلى الانتقال من عصر إلى عصر، وإذا لم يحدث له هذا الانتقال فسيصبح شيئاً من التاريخ، خاصة في ظل ما يرجوه الإسلاميين من ترتيب الدين كعامل مؤثر في القومية العربية ليصبح في مؤخرة العوامل، على الرغم من أن جمال عبد الناصر حمل في حكمه لمصر بعداً إسلامياً، تجلى في تحالفه مع فصيل من جماعة الإخوان المسلمين مثل أحمد حسن الباقوري ومحمد البهي وغيرهم، فضلاً عن إنشائه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وإذاعة القرآن الكريم وتوسعه في البعثات التعليمية للأزهر من أفريقيا وأسيا، وتبنيه في خطابه رؤية معتدلة للمسلم، وكذلك في الحفاظ على صورة الرئيس المصلي المؤمن،
لكن تعرض جمال عبد الناصر لهجوم حاد في حقبة سبعينيات القرن العشرين وما تلاها من قبل الإخوان المسلمين، أثر سلباً في جماهيرية عبد الناصر وفي مقولات القومية العربية، خاصة في ظل عدم وجود من القوميين العرب، فانتشرت مقولات معادية لها، فالناس أعداء ما جهلوا، وركز هذا كله في الشعور العربي سقوط صدام حسين في العراق، وجهود جامعة الدول العربية عند نقطة واحدة أنها جامعة نظم وليس لها علاقة بالشعوب.
القومية العربية تعكس خصوصية لمجموعة من الدول التي يدين معظم سكانها بالإسلام، وتتحدث لغة مشتركة هي العربية ويجمعها الجوار الجغرافي، وتملك تنوعاً ثقافياً اندمج في الثقافة العربية، وصار كل من لديه هذا التنوع يحتفظ بخصوصية خاصة، فداخل العالم الإسلامي الكبير، هناك وطن عربي هو بمثابة القلب لهذا العالم.
من هذا المنطلق يجب إعادة النظر في فكرة الجوار الجغرافي بعد انضمام دولة جزر القمر لجامعة الدول العربية، كما أن وجود أقليات عربية في إيران وتركيا ووجود متحدثين باللغة العربية بكثافة عالية في دول مثل تشاد والنيجر ومالي وكذلك اريتريا، كل هذا يطرح تساؤلات حول حدود الجوار الجغرافي، بل وأيضاً الانتشار اللغوي للعربية.
إن مستقبل العرب مرهون الآن بيد المؤسسة الرسمية العربية، التي ظلت لسنوات حبيسة رؤية الأنظمة العربية، فبات من الملمح تحرير جامعة الدول العربية من منظومة ثبت بمرور الزمن عدم فعالياتها، وأول خطوات هذا التحرير هو تحرير ميزانية الجامعة العربية، بأن يفرض على كل تذكرة طيران بين الدول العربية دولار لصالح الجامعة أو أي عابر بين كل دولة عربية دولار، أن تتوسع الجامعة في إدارة مؤسسة اقتصادية تمول وتقيم مشروعات تنموية على الحدود بين الدول العربية، لقد أثبتت المنظومة العربية فشلها حينما تفاقمت مشكلة دولة مثل الصومال، كما أنها مع نبيل العربي خرقت قواعدها الجامدة بالتدخل في الشأن السوري حقناً للدماء. كما يجب على الجامعة العربية أن تدمج مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني فيها، لتشكل هذا المؤسسات ذراع الجامعة في التواصل مع الشعوب، بل يجب عليها أن تمول وتشجع هذا المؤسسات.
يستتبع هذا ضرورة تطوير الخطاب العربي لكي يكون أكثر واقعية، فإلى الآن العاطفة هي الجامعة للعرب، لكن المصالح المشتركة هي الرابط الفعلي، فدون ربط الشعوب العربية بمصالح اقتصادية قوية وتبادل اقتصادي فعال ستخفو الرابطة العربية، في ظل تجاذب مغربي غربي فرانكفوني، أو تجاذب موريتاني أفريقي، أو تجاذب دول الخليج العربي لتعمل بعيداً عن عرب شمال أفريقيا.
مستقبل العرب أصبح الآن على المحك، لذا صار سؤال المستقبل أصعب مما يتخيله البعض؟.