لكي نفهم ما جرى من اختيار الدعوة السلفية (وبالتالي حزب النور التابع لها) للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح مرشحًا لرئاسة الجمهورية، علينا أن نعود للوراء قليلاً لاستطلاع ما جرى في كواليس المشهد وعلى أطرافه وفي غرفه المغلقة، لا من باب النميمة وكشفِ ما هو مستور، بل لأن هذا سيعطينا لمحةً وانطباعًا عما سيكون عليه الوضع في بلادنا في المستقبل القريب. بدأت العلاقة الودية الحميمة بين المجلس العسكري والإخوان في الذوبان عقب انتخابات المجلسين، مع شعور الإخوان المتصاعد برغبة المجلس في تحجيم دور البرلمان وتعويق مهامه وتقزيم سلطاته، وتقاعسه عن تنفيذ توصياته وقراراته التي صارت لا تتجاوز حيز الأوراق التي كُتبت عليها، بما يمثله ذلك من إحراجٍ لهم في الشارع وبين الجماهير، نتيجةً لعجزهم عن التأثير في القرار بأية صورةٍ من الصور، أو حلِّ الأزمات المعيشية المتزايدة التي شعروا أن جانبًا منها بفعل فاعلٍ هو المجلس نفسه، ولهذا الغرض بالتحديد. ومن ثم كان مطلبهم بإقالة حكومة الجنزوري وتشكيل حكومة جديدة يكون لهم فيها نصيب يمكنهم من العمل لاستعادة ثقة الشارع وتأييده. وفي الوقت نفسه كانت أزمة تأسيسية الدستور التي نشبت بينهم وبين غيرهم من القوى المدنية والثورية، والتي جرى استغلالها من قِبَل النظام للدلالة على شراهة الإخوان ورغبتهم في السيطرة على مقدرات البلاد، وهو الطرح الذي لاقى رواجًا وانتشارًا بين قطاعاتٍ عريضةٍ من الشعب. وكان أن نشبت الأزمة الشهيرة بين المجلس والإخوان، التي تراجع الإخوان على إثرها عن تعهدهم السابق ودفعوا بخيرت الشاطر مرشحًا للرئاسة، بالتزامن مع توجيه انتقاداتٍ قويةٍ وصريحة للمجلس العسكري، وبدا جليًّا للعيان أن العلاقة بين الطرفين آخذة في التدهور الشديد، وأن التنسيق بينهما يضمحل أو يكاد.
وعلى صعيدٍ آخر كانت العلاقة بين الدعوة السلفية (=حزب النور) والمجلس أكثر ثباتًا وهدوءًا واستقرارًا، فلم يمانعوا على الإطلاق في إعادة تشكيل التأسيسية بناءً على رغبة المجلس، كما رفضوا دعوات الإخوان بإقالة الحكومة، وما زالوا يرفضونها، وهو ما جعل إحساس الإخوان بأن السلفيين يمثلون عمقًا استراتيجيًّا حقيقيًّا لهم يتآكل شيئًا فشيئًا، خاصةً وأن المجلس على سبيل المثال كان يبادر بالاتفاق مع حزب النور على القضايا محل الخلاف، ثم يذهب بهذا الاتفاق إلى الإخوان ويطرحه عليهم، فلا يجدون بُدًّا من الموافقة أيضًا، وهو الأمر الذي أحدث مرارةً متصاعدةً لدى الإخوان تجاه الطرفين معًا.
وكان حازم أبو إسماعيل حينها يمثل مشكلةً حقيقية بالنسبة للسلفيين، حيث كان يلاقي قبولاً واسعًا في الشارع السلفي وبين شبابه على وجه الخصوص، مع غياب البديل القادر على مواجهة هذه الشعبية الجارفة وتمثيل (المشروع الإسلامي) حسب فهمهم تمثيلاً قويًّا كما فعل، وكان خيرت الشاطر هو هذا البديل المقبول والمحتمل، بحيث كان الإلحاح الشديد عليه من بعض قادة السلفيين للترشح، مع وعدٍ أكيدٍ بتأييده ومناصرته. وليس هذا بالأمر الغريب، فالشاطر يمثل الجناح الأكثر سلفيةً والتزامًا داخل الإخوان، كما أنه كان حريصًا على بناء صلاتٍ متينةٍ بالتيار السلفي ممثلةً في كونه عضوًا فاعلاً في الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح التي يرأسها الدكتور محمد يسري إبراهيم، أحد الرموز السلفية المعروفة، والذي تربطه بالشاطر صداقة وطيدة، مع حرصه على التنسيق والتشاور المستمر مع قادة السلفيين على طول الخط. ومن الجدير بالذكر أن بعض هؤلاء القادة كان يلح على الشاطر في أمر الترشح بينما كان يظهر تأييده لحازم أبو إسماعيل في العلن، رغبةً منه في عدم خسارة الشباب المتحمسين له واستفزاز مشاعرهم. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن هذا الإلحاح وهذه الوعود والمواثيق من جانب السلفيين كانت من أقوى العوامل التي شجعت الإخوان على الدفع بمرشح رئاسي وجرَّأتهم على ذلك خلافًا لرغبة المجلس العسكري.
وعقب الأزمة التي أشرنا إليها فيما سبق ثارت ثائرة المجلس، وطلب الاجتماع بالإخوان، ففوجئ الإخوان بوجوهٍ جديدةٍ غير التي كانت تفاوضهم وتتحدث معهم من قبل، وجوهٍ تتكلم بلهجةٍ مختلفةٍ تمامًا، حادةٍ وقاسيةٍ، وكان الكلام واضحًا وبلهجةٍ صارمةٍ لا تقبل النقاش: النظام الرئاسي خط أحمر، ولن يُسمح بنظام برلماني ولا بأي بتغييرٍ ملموسٍ في شكل النظام، حكومة الجنزوري لا مجال لإقالتها ولن يحدث هذا إلا بعد انتهاء انتخابات الرئاسة ومحاكمة مبارك بمدةٍ كافية يحددها المجلس ولا يحددونها هم، وإذا حدث وذهبت الحكومة للإخوان فهناك اثنتا عشر وزارة هي خطُّ أحمر أيضًا، يجب أن تبقى تحت سيطرة المجلس ولا أحد غيره، من بينها وزارات كالكهرباء والموارد المائية والبترول والطيران المدني على سبيل المثال، وكذلك فإن أملاك الجيش وممتلكاته واقتصاده خط أحمر لا يُسمح بالاقتراب منه أو مناقشته، وعلى الإخوان أيضًا البحث عن سبلٍ لتقنين حق تدخل الجيش في حالاتٍ معينةٍ لحماية (الدولة) في الدستور القادم. كان الكلام صادمًا للإخوان بالطبع وغير مقبول، وانفض الاجتماع وقد صارت عودة العلاقات بين الطرفين إلى سابق عهدها أمرًا شبه مستحيل. لقد كانت الإشارات المطمئنة التي تلقاها الإخوان من واشنطن بعدم ممانعتها في تولي شخصية إخوانية لرئاسة البلاد (كتلك التي تلقاها صدام حسين قبل غزو الكويت) علامةً فارقةً بين الجانبين، لأنها أثارت غضب المجلس واستفزته بصورةٍ واضحة.
ثم كان الحكم باستبعاد أبو إسماعيل والشاطر معًا، فرُفع عبء أبو إسماعيل عن كاهل القيادات السلفية وصارت أكثر قدرة على المناورة وحرية القرار، وفي الوقت نفسه تحللت من التزامها السابق تجاه الشاطر الذي استبدل بمحمد مرسي، والذي لم يكن مقبولاً عندها كما كان الشاطر، هذا أمر، والأمر الآخر هو أن الأزمة المحتدة بين المجلس والإخوان دفعتهم لإعادة النظر في تأييد مرشح إخواني من حيث المبدأ. ولا يعني هذا أنه كانت ثمة ضغوط مباشرة من المجلس العسكري على الدعوة السلفية كما يقول الإخوان، لأنه ليس من الصعب من حيث السياسة أن تعرف اتجاه الريح حتى تتخذ قرارك المناسب، وإن كان قد حدث ذلك فلن يكون في صورة ضغوط وإملاءات، بل مجرد إيحاءاتٍ وتلميحاتٍ لبعض الكوادر القادرة على التأثير في القادة أنفسهم، مع استدعاء الخلافات والصراعات التي نشبت أحيانًا بين السلفيين والإخوان أثناء الانتخابات البرلمانية كمسوغٍ لهذا الموقف. ومع هذا فإن الدعوة السلفية تبدو أكثر اتساقًا مع نفسها ومع مواقفها السابقة، حيث لم تكن منذ البداية مع الدفع بمرشح إسلامي من الأساس، ولم يكن تأييدها لخيرت إلا مخرجًا لا مناص منه من أزمة أبو إسماعيل كما سبق بيانه. ومع ذلك بقيت الهيئة الشرعية على التزامها السابق مع الإخوان وأعلنت دعمها لمرسي استباقًا لموقف الدعوة السلفية، وأبرز الموقف المقابل هذا الخلاف في التوجهات داخل التيار السلفي نفسه، خاصةً وأن الدعوة السلفية كانت تشعر بشكلٍ ما بأن الهيئة الشرعية تحاول سحب البساط من تحت أقدامها ومحاولتها الانتشار على حساب قواعدها الخاصة مدعومةً في ذلك بالإخوان، وهو موقف سيكون له توابعه من دون شك، كما أن عدم تأييد مرسي سيكون له توابعه مع الإخوان من دون شك، وإن كانوا قد لا يكونون قادرين على الرد المناسب في المستقبل القريب لأن موقفهم قد تضعضع وتزعزع كثيرًا بفقدان عمقهم الاستراتيجي، وضعف مرشحهم الرئاسي، وأزمتهم مع العسكري، ولو نجحوا في مجرد الحفاظ على مكاسبهم السابقة، بدون التعرض لمزيدٍ من الخسائر، فسيكونون قد حققوا إنجازًا كبيرًا.
إن القضية ليست في تفسير ما جرى، ولكن في فهم ما هو آت، لأن من السذاجة أن نظن أن هذه الإملاءات وتلك الخطوط الحمراء الكثيرة التي ذكرناها هي خاصة بالإخوان وحدهم، بل هي مطروحة وواضحة أمام جميع المرشحين الرئاسيين، ولابد من الالتزام بها لمن ينجح منهم في الفوز بالمنصب, ومن هنا نعلم أن الانتخابات الرئاسية لن تكون الحلَّ لجميع قضايانا المعلَّقة، ولن تسفر عن تغيير وجه النظام بصورةٍ تامة وشاملة كما يتوهم كثيرون، بل سيستدعي الأمر جهدًا طويلاً وشاقاً، وكثيرًا من الحوار والتفاوض مع المؤسسة العسكرية نفسها، وعملاً سياسيًّا ومجتمعيًّا من أجل تأسيس مشروعٍ وطني يلتف حوله الجميع ويحرصون على تعزيزه وحمايته، وتجاهل الحساسيات والمخاوف والأحقاد من أجل تعزيزه وحمايته.