اختراع الطرف الثالث لا يختلف كثيرا عن اختراع ذئب سيدنا يوسف الذى جاء من وحى إخوته ليحافظوا على الاستقرار العاطفى لأسرتهم، لكن يظل السؤال.. الدم الذى جىء به على قميص سيدنا يوسف كان دم مَن؟ ومن أول لحظة فى الثورة كان صوت الثوار يقول: ما المطلوب؟ ويحددونه بوضوح إلا أن قادة الأمر يسيرون طول الوقت خلف نظرية «إن البقر تشابه علينا» وظلوا يماطلون ويمطمطون فى الأمر حتى تشابه البقر علينا إحنا شخصيا، وبعد أن كانت صورة لثوار ميدان التحرير تستحق أن تكتُب أسفلها تعليقا يقول «إنهم فتية آمنوا بربهم» صار الميدان وأنصاره فى عزلة وضرب عليهم الحصار المعنوى حتى صارت صورة ثوار الميدان من فرط تشويههم صورة تستحق تعليقا هو، فى حد ذاته، إشارة إلى الكارثة: «إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا». هل تعرف سر غضب الثوار المتواصل؟ إنه سؤال بسيط إلى كبار البلد: «أليس منكم رجل رشيد»؟! هم غاضبون، لأنهم يطلبون طلبا بسيطا لا يستجيب له أحد: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها». يندهش الثوار من كون الكبار لا ينظرون إلى الأمور بعين الخشية، كما يجب، على الرغم من أنه «وجاءكم النذير».. يقول الضحَّاك فى تفسيره: «إن النذير هو المشيب، أى أن الشعر الأبيض لم يجعلهم يتعلمون الدرس الذى عاشوه على الهواء فى سقوط مَن قبلهم». ربما الصبغة هى السبب! أما من فرحوا بكراسى الحكم فقد اعتبروا الوصول إليها مكافأة ربانية فكبَّروا وهلَّلوا ولم يلاحظوا أن الموضوع ابتلاء واختبار صعب، به من الترقب ما يجعل الواحد يموت رعبا «عسى ربُّكم أن يُهلك عدوَّكم ويستخلفَكم فى الأرض فينظرَ كيف تعملون». فانظر يا صديقى كيف يعملون منذ وصلوا إلى مفاتيح لوحة التحكم؟ فقد كانت الثورة مثل المطر نزلت على نفوس سليمة فبلت ظمأها وأنعشتها وجعلتها تثمر.. «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا»، ونزلت على نفوس ضحلة فجعلتها مؤذية.. «إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ» يقول ابن المقفع فى تفسيره «أذى من مطر»: يعنى التأذِّى فى السَّفر لما يسببه فى بعض المناطق من أوحال، كما أنها مطر يساعدك على الفرز وإن طال الوقت. «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقُّ والبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِب اللهُ الْأَمْثَالَ». يتحول المطر الكثيف مع اتساع الوادى وجريان الماء إلى زبد يعلو الماء الصافى.. الزبد يظل فى مقدمة المشهد، وبمرور الوقت ينزاح وترسو الأمور على ما استقر تحته من ماء صافٍ، ثم ينزاح الماء فيكشف عما ظل فى الأرض من نفيس المعادن والأحجار الكريمة.. إنها مسألة وقت، تكتشف بمروره أن مَن يتصدر المشهد كان لا شىء، وربما هذا ما يجعل الواحد يراهن على الوقت والصبر والثقة فى الله «أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ».