د. محمد يسري سلامة يكتب: مجلس كفتة د. محمد يسري سلامة تنحصر علاقتي بمجلس الشعب (الجديد) في أني شاهدت بالأمس جزءًا من جلسته مع مجموعةٍ من المواطنين (البسطاء) -إن صحَّ هذا التعبير- الذين تحلَّقوا حول تلفازٍ وضعه صاحبُ دكانٍ صغير خارج دكانه، وذلك أثناء جولةٍ قمت بها في أحياء الإسكندرية القديمة، لأستمتع برؤية المباني والمساجد الأثرية الرائعة، كي أذكِّر نفسي وأذكِّركم بأن مصر كانت بلدًا عظيمًا وستعود بلدًا عظيمًا بإذن الله تعالى. والحق أني لم أكن في حاجةٍ لقول أي شيء تعليقًا على ما أراه، نظرًا لعلامات الامتعاض والاستهجان التي ظهرت على وجوه الناس وهم يتابعون الجلسة، في حين تراوحت تعليقاتهم ما بين (لا حول ولا قوة إلا بالله) و(إنا لله وإنا إليه راجعون) و(حسبنا الله ونعم الوكيل) و(هو ده مجلس الشعب بتاعنا) و(هو ده برلمان الثورة) و(مجلس كفتة) إلى غير ذلك من الكلمات المعبِّرة التي أغنَتني عن أية محاولة للتحريض وإثارة الجماهير التي صرت خبيرًا فيها. وللمرة الأولى منذ أسابيع، وفي غمرة الأحزان التي أمرُّ بها فقد تملَّكني الضحك حتى أثار ذلك استياء الحاضرين الغاضبين، حيث لم أستطع احترام مشاعرهم والتوقف عن الضحك المتواصل، ما اضطرني إلى مغادرة الحشد وأنا أردد هذه الكلمة (مجلس كفتة). وبالطبع عاتبني بعض إخواني (السلفيين) على هذه الكلمة التي أشعتُها ونقلها الناسُ عني مع أنها ليست لي، وقال لي أحدهم: (لقد قلتَ كلمةً لو مُزجت بماء البحر لَمَزَجَته) أي عكَّرته وأفسَدَته. ومع أني لا أعرف بالضبط متى صار انتقاد مجلس الشعب حرامًا، بعد أن كانت المجالس التشريعية في نفسها كفرًا فيما قبل الثورة، ولكن حرصًا على مشاعر صاحبي فأنا مضطرٌّ إلى بيان ما أعجبني في هذا التشبيه البليغ، وأوجه الشبه العديدة بين مجلسنا الموقَّر وبين الكفتة. فالكفتة أولاً هي شيء لا تستطيع تحديد مكوناته بشكلٍ قاطع: هل هي لحمٌ حقيقي، أم لحم وفول صويا معًا، أم إنها لا تمتُّ للَّحم بِصلةٍ بل مجرد شيءٍ بُني اللون؟ وكذلك فإنك لا تستطيع تحديد ما إذا كان هذا المجلس هو مجلس شعب بالفعل، مهمته أن يدفع بالبلاد نحو التقدم والازدهار وبناء دولة العدل والكرامة والرخاء التي نريد، أم إنه مجلسٌ للإلهاء والتسلية، أم مجلس عسكر، أم مجلس عرب، أم المجلس الأعلى للشرطة، أم مجرد شيءٍ بُني اللون. كذلك فإنك كثيرًا ما تلاحظ عنصرًا أخضر في داخل أصابع الكفتة، وتساءل نفسَك حينها ما إذا كان هذا الشيء هو البقدونس حقًّا أم إنه مجرد بقايا لديناصور منقرض أو تنّين مُجنَّح أو نحو ذلك، وفي الوقت نفسه فإنك تصاب بالحيرة ما إذا كان هؤلاء الإخوان والسلفيون والليبراليون والوفديون الذين تشاهدهم هم إخوان وسلفيين وليبراليين ووفديين بالفعل أم مجرد بقايا لنظامٍ شبه بائد. ثم إني لا أجد فرقًا ملحوظًا بين الكفتة التي نتناولها في أحد المطاعم الفاخرة بسعر مئتي جنيه للكيلو الواحد وبين سندوتش الكفتة الذي نأكله على الرصيف بجنيهين اثنين، أي ما بين كفتةٍ وكفتة، وكذلك لا أحس فرقًا ملحوظًا بين محمد أبو حامد على سبيل المثال وبين غيره من نواب (الأغلبية) حتى وإن لوَّح هذا بالخراطيش الفارغة وحاول ذاك اختطافها منه، لأن لديَّ شعورًا لا يفارقني بأنه كان سيفعل معهم الشيء نفسه الذي يفعلونه معه لو كانوا هم الأقلية وكان المتظاهرون إخوانًا، وأنهم جميعًا وجهان لعملةٍ واحدة. وأيضًا فإن الكفتة لا تؤكل وحدها، بل تحتاج إلى خبزٍ معها، وكذلك فإن مجلس الشعب لا يؤكل ولن يؤكل وحده، بل لابد معه من مجزرة بورسعيد أو أزمة أنابيب أو محمد محمود أو محمد منصور أو أي محمد والسلام. ولذلك فأنا أطالب رفاقي الغاضبين عند وزارة الداخلية بإلقاء الحجارة جانبًا ومحاولة توفير أنابيب البوتاجاز للمواطنين بدلاً من ذلك لكيلا يجد السادة النواب شيئًا يتكلمون فيه ويتشاجرون حوله، ونكون بهذا قد سحبنا البساط من تحت أقدامهم، إلا إذا قرَّر الأخ خالد يوسف أو الأخت إيناس الدغيدي أو غيرهما إتحافنا بفيلمٍ من أفلامهم المعهودة، فأستطيع حينها أن أضمن لكم مادةً دسمةً للحوار والشجار تكفي البلاد لمدة ستة أشهر على الأقل، أي أطول من مخزون القمح نفسه. وأخيرًا فإن الكفتة قد تكون فاسدةً تمامًا، ولكن مع إضافة قليلٍ من التوابل والبهارات إليها تصبح شيئًا شهيًّا نأكله من دون أن نفكر في عواقب ما نفعله، وكذلك فإن المجلس قد يبدو لنا فاشلاً تمامًا، لكن مع إضافة بعض الكلمات الرنانة والمشاجرات الصاخبة والتصفيق الحاد وأشياء من نوعية (مافيش لايحة) و(هاتخذ معك إجراء) و(مارسوا الديمقراطية) -ولا مؤاخذة- نستطيع عندها أن نشاهده باطمئنان ويصبح هذا هو برلمان الثورة ولو بالإكراه، بغض النظر عن العواقب وحالة التسمم التي ستصيبنا وتستوجب نقلَنا إلى غرفة الإنعاش فيما بعد. ربما كان علينا البدء في تشكيل البرلمان الموازي على وجه السرعة، أم سيمنعوننا من ذلك، أم سيقولون: (خلوهم يتسلوا) ونحن نعلم طبعًا نهاية هذه الكلمة. وربما كان عليهم البدء في محاولة تجديد أنفسهم ولو بتغيير مظهر المجلس نفسه و(ديكوراته) لمجرد إيهامنا بأن شيئًا ما قد تغيَّر، وحتى لا يذكِّرنا كلما تابعنا جلساته الطريفة بحقبةٍ طويلة بائسة من حياتنا، إلا إذا كان الدكتور الكتاتني يحاول أن يقول لنا بصورةٍ غير مباشرة أن جلوسه في نفس مكان فتحي سرور هو حقيقةٌ لا خيال بدليل أن النسر أو الصقر الكبير ورائه بالفعل. وربما نُتهم بأننا حاقدون وأننا فاشلون، ولعل معهم بعض الحق في ذلك، لأن من طبائع النفس البشرية أن يصيبها شيء من الحقد حين تراودها الأمنيات في أن تصبح كالذي أخذ إجازةً من عمله لمدة خمس سنواتٍ كاملةٍ لمجرد أن يتفرغ للجلوس لساعاتٍ طوالٍ في مجلسٍ لا يفعل فيه شيئًا سوى التزام الصمت التام، أو التكلم بكلامٍ لا معنى له ولا مردود، ثم يتقاضى في نهاية الأمر آلاف الجنيهات في مقابل عبثٍ محض ولهوٍ بريء لا أكثر ولا أقلّ. أما الفشل فنحن حقًّا فاشلون طالما اكتفينا بانتقاد المجلس الموقَّر وأعضائه من دون أن نفعل شيئًا لمواجهة ذلك كلِّه على أرض الواقع. وإلى أن يحدث ذلك لا أملك سوى أن أقول لمجلس الكفتة هذا من أوَّلها: لقد هرمنا!