حكى لى صديق يعيش في كندا أنه فوجئ أنه مصنف ممن يعيشون تحت خط الفقر، فتعجب لأنه يعيش عيشة كريمة بمقياسنا في مصر، فهو يأكل ويشرب ويدخل السينما ويخرج كل ويك إند للتنزه داخل مدينته، ولكن هذا لا يكفى فى كندا فهناك معايير هامة لقياس مستوى المعيشة وما يمكنه أن يقوم به لنفسه ولأسرته، ومن ثم فقد اعتبر صديقى من الفقراء. هكذا يتم الضحك علينا عندما تنقل وسائل الإعلام فى مصر، أرقاما ضخمة حول عدد الفقراء من دول أوروبا وأمريكا وغيرها، ويذكرون أرقاما صحيحة صادرة من هذه البلاد، ولكنهم لم يعرفوا من هو الفقير هناك، ومن هو الفقير هنا، وهذا لا يمنع وجود أفراد لا يريدون العمل فى هذه المجتمعات ويفتعلون المشاكل بسبب فقرهم. نفس الأمر حدث عندما قارن الإعلام المصرى بين مظاهرات "وول استريت" في أمريكا ومظاهرات مجلس الوزراء والقصر العيني في مصر، وتناقلت الجماهير من خلال وسائل إعلام مضللة أننا لسنا أفضل من أمريكا، فها هى أمريكا التى تنادى بحقوق الإنسان وبالحريات تقمع المضربين والمعتصمين وتتعامل معهم بكل قسوة، ورغم أن المقارنة خطأ، والقياس على خطأ، خطأ أيضا، إلا أننى قررت أن أبحث موضوع وول استريت، فسألت صديقا لى يعيش فى أمريكا منذ 18 عاما وهو الأديب عاطف يوسف، وطلبت منه تفسير ما تم نقله من عنف واشتباكات بين الشرطة والشعب فى موقعة وول استريت، وكيف تمت هذه التجاوزات فى بلد المفروض أنها بلد الحريات، فأجابنى قائلا: قبل أن تقرأ عما حدث فى وول استريت يجب أن تعرف أن القانون فى الولاياتالمتحدة صارم جدا وليس من حق أى فرد أن يعدله أو يعقب عليه، والكل سواسية فى تطبيق هذا القانون، والقانون يوجد له حارس وهو الشرطى ويعطيه حق الضبطية القضائية، أى أنه إذا وجد مخالفة قانونية واعتبر مرتكبها مخطئ وعقوبة القانون فيها السجن فيحكم عليه ويصطحبه إلى السجن مباشرة وإن أراد المتهم أن يشتكى، فعليه رفع دعوته للقضاء وينظر فيها فورا أى خلال أربعة وعشرون ساعة، هذا عن القانون بالشارع الأمريكى، وتكمن قوة رجل الشرطة فى أنه إذا استغاث بقوته يحضر أمامه على الفور وفى مدة زمنية لا تزيد عن ثلاث دقائق ثلاثة مائة وخمسة وثلاثون شرطى وهنا تكمن قوة رجل الشرطة. أما عن حق التجمع، فلا يتم عقد أى تجمع لأكثر من خمسة وثلاثين شخصا في مكان عام إلا بحضور ممثل قضائي أى رجل شرطة حتى وإن كان التجمع أمام سينما أو مسرح أو حتى مطعم، وإلا أعد مخالفا للقانون، وحق الاعتصام مكفول ومؤمن من قبل رجال الأمن عند صدور تصريح بذلك كتابة، أو حتى إن أراد عازف موسيقى أو مغنى أو حتى حاوى فى ميدان عام لابد وأن يأخذ تصريحا مسبقا من الشرطة لتحديد المكان والوقت المسموح له ويكون مؤمنا كذلك من رجال الشرطة لمزاولة حقه فى الشحاتة! أما ما حدث فى وول استريت فقد تقدم قادة المظاهرة إلى شرطة مانهاتن قسم بروداى لطلب تجمع أمام مقر بورصة نيويورك للأوراق المالية الكائنة فى شارع وول، وتمت الموافقة كتابة وبالمدة المحددة وتجمع المتظاهرون واستقطبت المظاهرة والاعتصام أعدادا كثيرة من الشباب والطلبة والعاطلين عن العمل وهتفوا بشعارات تطالب بالعمل والسكن ورفع الضرائب وزيادتها على الأغنياء، والتأمين الصحى أى أن المطالب برمتها كانت اقتصادية وليست سياسية، وعند انتهاء المدة المصرح لها لم ينفض الاعتصام وحاول المتظاهرون أن يفروا إلى شوارع جانبية، هنا القانون يتدخل بكل حسم، حيث لا مخالف للقانون حتى وإن كان المعتصم فردا واحدا، ويصبح على الشرطة أن تفض الاعتصام، فتطوع أحد رجال البوليس بتفرقة المتظاهرين فرش فى وجوههم بخار الفلفل الأسود المضغوط فى أنابيب مما أزعج المعتصمين والمسؤولين السياسيين أيضا، فتم وقف الشرطى وتقديمه إلى المحاكمة وأصدر رئيس شرطة مانهاتن مدة خمسة ساعات لإنهاء الاعتصام، وكل ساعة يعلن عن الفترة المتبقية إلى أن انتهت الخمس ساعات وكانت منتصف الليل، فزحفت قوات البوليس لإزاحة الخيام الباقية وحمل من لم يرتدع إلى عربات البوليس لتقديمه فى الصباح للمحاكمة بتهمة الإخلال بالنظام العام وتابعت تلك الحملة عربات رش ومسح وكنس الشوارع وانتهت المظاهرات والاعتصامات بلقاء مع عمدة نيويورك لتهدأة الأجواء لكن رغم ذلك مازالت هناك بعض المناوشات الفردية التى لا تسمح بأن تعطل حركة المرور ولا البورصة ولا حتى الباعة الجائلين ولا المحلات المنتشرة فى مانهاتن. أظن الكلام واضح ولا يحتاج تفسيرا، فالفرق كبير وواسع جدا بيننا وبينهم، وحتى عندما رأيت الفيديو الذى يظهر فيه عنف الشرطة، فقد كان مبررا وطبيعيا جدا، لأن الشرطى يريد تنفيذ القانون، حيث يوجد قانون ينفذ على الجميع، وعلى الرغم من ذلك تم معاقبة الشرطى الذى أطلق بخار الفلفل الأسود على المتظاهرين، وأى شرطى يثبت أنه تعرض لأى إيذاء جسدى للمتظاهرين أو المعتصمين يتم محاسبته على الفور. هناك يوجد قانون ويطبق وهنا لا يوجد أى قانون.