كنت أقف في منتصف دائرة، والدائرة تقع في منتصف مستطيل. كنت أقف في غرفة الرعاية المركزة في منتصف دائرة من الأطباء والممرضات. والدائرة يحيطها مستطيل من ست سراير، يرقد علي السرير ستة مرضي، واحد منهم لا يتوقف عن الصراخ وخمسة غارقون في غيبوبة عميقة، اثنان منهم علي جهاز تنفس صناعي، واحد منهما طفل. كنت ثابتة تماما، منشغلة بالتفكير في مريض خارج الغرفة كلها، مريض في الغرفة المجاورة، لو لم ينتقل إلي هذه الغرفة ويضع الأطباء في فمه إحدي الأنبوبتين المتصلتين بجهازي التنفس سيتوقف قلبه عن العمل. صوت وإشارة صدرا من الدائرة المحيطة بي، جعلاني أنظر في اتجاه أول سرير يقع في ركن الحجرة، في نفس اللحظة التي استقبل فيها مخي معني الصوت استقبل أيضا شكل الطفل، كان الصوت يعلن موت الطفل، وكان شكله شديد الصغر بالنسبة للسرير والحجرة. صغير جدا ونائم ومتصل بعدد لا نهائي من الأنابيب، من بينهم الأنبوبة التي يحتاجها مريضي. تراجعت إلي الخلف خطوة واحدة، أو نصف خطوة، لأن خطوتي «اتبرجلت». (عايزة كرسي) قطعت همس الدائرة بصوت غريب عني. في أقل من لحظة كان الكرسي تحتي. تحولت الدائرة إلي عيون تنظر تجاهي، لابد أن تغيراً ما ظهر علي وجههي، لم أشعر إلا بأن ساقيّ تحولتا إلي قطعتي ثلج. حاولت أن أخفي ارتباكي فسألت بنفس الصوت الغريب: ( هو عنده كام سنة؟) (مين ؟) (الطفل) ( اتناشر) ( كان ماله ؟) ( وقع من فوق السطح.. من الرابع تقريبا) ( يا حسرة قلب أمه.. ده أنا افتكرته عنده أربع سنين.. شكله أصغر من سنه بكتير) هذه الجملة قلتها بصوتي الحقيقي لكن كانت الدائرة انفرطت من حولي وتفرقت في المستطيل، ولم يسمعني أحد. سألت نفسي (هل أنظر للطفل ؟، هل أذهب وأضع يدي علي رأسه لأتأكد أنه مات ؟، إيه الهبل ده، الدكاترة والأجهزة قالوا مات يبقي مات) (يا أستاذة) نبهني صوت الطبيب. (إحنا عندنا مشكلة، أهل المريض هيظنوا إننا كنا بنحاول التخلص منهم وأظهرنا السرير لما انتي جيتي) ( أيوه عندهم حق.. عندهم حق يفتكروا إنكم كنتم بتكذبوا عليهم، أنا لو مكانهم هافكر كده، بس ده يهمكم في إيه؟! إنتم عارفين إنكم صادقين) يبدو أن صوتي كان مستفزا. قالت أكبر الممرضات (ولا هيفتكروا ولا حاجة.. كل واحد بيفكر في نفسه) بدا علي تعبيرات وجهها أنها تقصد الأطباء. بعد خروجها من باب الحجرة بلحظة.. وصلني صوت صراخ أم الطفل.