لن أشكك في وطنية من يعشقون مصر علي «الموضة».. من يعشقونها فقط ويعلنون عن حبهم لها وفقًا لشروطهم، وشروط من يملون الشروط عليهم.. لن أفعل مثلما يفعلون، ومثلما يصفون كل من لا ينسجم مع سخف أسلوبهم في إعلان الحب أو سخف شروط هذا الحب المعلن بإملاء البعض.. لن أجاريهم - بالتأكيد - في رؤيتهم لحبيبتهم مصر والتي يحبونها - كما يقولون- لأنها أحلي بلد في الدنيا، فأنا مازلت أحبها رغم أنها ليست أحلي بلد في الدنيا، بل إنني - ويا للعجب- مازالت أعشقها بكل قبحها وسخافتها معي ومع من أعرفهم ويعرفونني، فليس لدي شروط لحبها. كما أنني لن أحبها في المناسبات مثلهم، فهم يحبونها فقط أو هم يعلنون حبهم لها بناء علي مصالح بحتة- مازلت فاشلة في تحديد مدي أهمية هذه المصالح وكنهها- فهم يعلنون عن حبهم لها في مناسبات الانتخابات أو مباريات الكرة، «واذكر- لو كنت ناصحاً- مناسبة أخري لسيل الأغاني الوطنية الذي ينهمر علينا»، بينما يهملونها ولا يسألون عنها في وقت حاجتها الحقيقية لهم.. إنهم أحباء يملون شروطهم عليها، فكيف تحبهم هذه الحبيبة الغبية؟! ليس هذا فحسب، بل إنهم يزايدون علي من يحبها في صمت أو من لا يعلن عن حبها في أوقات المزايدات.. «جرفت السيول أهالي سيناء وأسوان.. تحدثت مع صديقي الفنان وقلت له: أرجوك.. مثلما حدثت كل أصدقائك في برامج التوك شو لأجل مداخلة تعلن فيها عن كرهك للجزائر وحبك لمصر.. أرجوك أن تجري مداخلة مع إحدي برامج التوك شو معلنا عن تبرع لهؤلاء البؤساء.. أي تبرع - إنشاالله بطانية-.. قال لي: سأحدثك بعد تصوير هذا المشهد.. ولم يحدثني حتي كتابة هذه السطور، ثم فوجئت به يقظًا ومتفرغا لتهنئة «حبيبته»مصر بكأس أفريقيا، ولم ينس أن يهنئ راعي وصاحب مصر وأولاده - أقصد الرئيس ونجليه- علي الفوز العظيم»! لن أدخل في هذه المزايدات البغيضة، ولن يستفزني إغراء ممارستها، فدائما أعشق المعارك الأكثر صعوبة من هذه المعركة التي يمكن كسبها من أول جولة، فحبيبتهم- مصر- سينفض من حولها كل من يعلنون حبهم لها بعد أول قضية حقيقية أو كارثة تتورط فيها، وهي للأسف خبيرة تورط في الكوارث. تحولت مصر - في عيون هؤلاء - من امرأة ناضجة تقطر حكمة، وتعلو قسماتها ملامح الوقار والهيبة، وتحمل علي كتفيها خبرات السنين، إلي مجرد فتاة طائشة يمكن تعليقها بكلمة «حلوة» ومعاكسة شارع.. «اذكر لو كنت مثلي متابعًا.. كم أغنية وطنية بدأت بكلمة «باحبك يا مصر»، وكم مذيع في برامج التوك شو المستفزة ارتدي علم مصر بعد ماتشات الكرة، وقال: «المنتحب المصري خلاني أحب مصر أكتر»! في ظل هيستيريا كرة القدم لا تسأل ولا تنفعل كثيرًا وأنت تجيب عن سؤال: من يحب مصر؟ فالجميع سيحب هذه الفائزة المنتصرة المتألقة، ولكن انفعل واضرب رأسك في أقرب حائط لتفسر إجابة: لماذا لا يحب هؤلاء المتيمون العاشقون مصر عندما تتعرض لكارثة سيول أو غرق عبارة أو حادث قطار؟ هؤلاء أصبحوا يحبون مصر بهذا المنطق: بعد أن كانت مصر هي «أمي»، أصبحت مصر هي صديقتي ال«girl friend» بتاعتي، وعشيقتي و«موزتي» التي أحبها لا لشخصيتها، وإنما لعيونها الحلوة وشعرها الناعم وجسدها الممشوق، وميوعتها ودلالها أحيانًا. تحول حب مصر من حب الابن لأمه إلي حب الابن البايظ «للموزز»، وهذا الابن «الفسدان التلفان» المتنطع يكره حبيبته عندما يراها تحادث غيره أو تحاول أن تبحث عن دور آخر غير دور الحبيبة، فيسعي جاهدا لإفساد علاقاتها بمن حولها، ويصبح ماكرًا في الإيقاع بينها وبين صديقاتها حتي ينفرد بها لنفسه، فلا تجد من يعينها علي هذا الحبيب المتطلب.. بدأنا بالجزائر ولن ننتهي عند عدائنا بقطر وسوريا وإيران، وربما السنغال إذا كانت تهدد انفراد الحبيب بحبيبته! صارت كلمات مثل «باحبها وهي مالكة الدنيا شرق وغرب، وبحبها وهي مرمية جريحة حرب» موضة قديمة، وتحول من يقولها إلي شخص تقليدي لا تحبه مصر، ولا يحبه من يحبون مصر علي الموضة. أصبحت مصر نفسها فتاة ساذجة يمكن لأي عابر سبيل أن يضحك عليها بكلمة حلوة، ويقدر علي دغدغة مشاعرها بكلام معسول، كما أن مصر ذاتها أصبحت خبيرة في التعامل مع من يغازلها، فهي قادرة وهذه ليست قضية كبري لأي موزة متاحة- أن تخدع من يغازلها بضحكة حلوة أو أن تشعره للحظات- بالانتصار والرجولة.. ماتش كروة مثلا، ثم لا تلبث أن «تسكعه» علي قفاه بمهارة امرأة خبيرة برجال تعرف «غرضهم» منذ البداية.. سيول مثلا أو انقلاب قطار أو قانون ضرائب يقسم ظهر حبيبها المتيم، فهذه المرأة لا تنخدع كثيرًا بمن يتبعون نصائح: «طب جربت تغنيلها»، ولا يخدعها أبدا من يؤكد أنها «هتفضل في عنينا»، أو من يحاول استمالتها وتخديرها بكلمات من عينة: «بحب بلدي وبموت في بلدي.. الله عليها الله».. و«بحبك يا مصر يا بلد النصر».. ثم هذا الذي يقول: «ولا أي كلام في أغاني اتقال في حبيبتي وكفَّي.. ده أنا مصر حبيبتي في كفة وكل الدنيا في كفة».. أو «بحب سمارها» و«حبيتها.. دي بلدي اللي أنا اتمنتها.. أنا نهار وليل في سيرتها».. إنه كلام يدير رأس أي حبيبة ساذجة بالطبع، لكنه لم يدر بعد رأس هذه المرأة العصية علي من يحاولون استمالتها بحلو الكلام، وإن كانت تضعف أحيانًا معهم وتجاريهم، فلا تنسوا أنها امرأة تعشق من يدللها، وإن كانت تعرف أنه يبتزها مثل ذلك الذي غني وقال: «سنين عملنا لها خاطر.. بنبعد عنها ونسافر.. ونرجع ليها في الآخر وبرضه نحبها زيادة»، لكنها تعشق أكثر من يخاف عليها ويحميها، وليس من يمطرها بهذه الكلمات: «وبكل سماري مصري، وبخفة دمي مصر»، فهذه الحبيبة لا تهتم كثيرًا بالشكل.. أعتقد أنها كانت كذلك، خصوصًا أنها كانت تعشق أكثر «الرجال السمر الشداد فوق كل المحن» وتبتهج كثيرًا ب«العناد في عيون الولاد و تحدي الزمن.. والإصرار في عيون البشر»، فهي ترغب كثيرًا فيمن يعرفون أنهم «أحرار ولازم ننتصر»، وضع خطوطاً بعدد لانهائي تحت كلمة «أحرار». الموزة لا تحب «كدابين» الزفة، وتميل أكثر لمن يحبها في صمت ويعبر بكلمات أكثر اتزانا ورصانة، كما أنها تحب دائما من يحب عيوبها ويصارحها بها أكثر من هؤلاء الذين ينكرون أن بها عيوباً، وأنها كاملة من «مجاميعه»، حتي وإن قال محبها، كما انفعل صديقي علي الفيس بوك في السخرية من محبيها الجدد وقال: «الله علي شفايفك يا مصر.. هاتي بوسة يا مصر»، أو لو غني حقيقة كما غني المطرب محمد ثروت في الهوجة الأخيرة من حب مصر وقال: «مصر جمال ولطافة»! هي موزة حقًا، ولكنها موزة ذات خلق وأصول، وتفرق جيدًا بين من يحبها طمعًا فيها، وهذا الذي يحبها لأنه يحبها فعلاً، فهي موزة لا تغرها المظاهر والحركات، ومازلت محتفظة برصانة ونضج وهيبة مصر القديمة.