شهد مفهوم القوة الناعمة صعوداً بعد نهاية الحرب الباردة رغم أن ما يعبر عنه من استخدام أدوات دبلوماسية وثقافية في إدارة العلاقات الدولية كان موجودا قبلها وأثناءها، فاستخدام الدولة لأدوات القوة والنفوذ خلاف الأداة العسكرية والتي تندرج تحت القوة الصلبة كان موجوداً طوال الوقت وفي كل أشكال السلطة والحكم، فالشرعية التقليدية والدينية والثقافية والكاريزمية تتيح أدوات للتأثير في سلوك الأطراف الأخري في العملية السياسية في الداخل المحلي والوطني أو الخارج الإقليمي والدولي، ويتنوع ثقل هذا التأثير وأدواته من عصر لعصر. والحق أن القوة الناعمة مفهوم مركب، يساء استخدامه طول الوقت، فالنعومة أصعب في تعريفها بل وتحقيقها من الصلابة، وعلاقتها بالتاريخ وبالذاكرة وبالأبعاد النفسية والثقافية أقوي من فكرة السيطرة والهيمنة والتحكم البسيطة الصريحة التي بشرت بها الحداثة وقامت عليها فلسفة الدولة القومية، وهي إقرار بأن العقلانية الأداتية التي تحسب حسابات القوة المادية لا تكفي وحدها لإدارة علاقات السلطة والحكم الداخلي أو الجوار السلمي أوالصراع الخارجي. صعود مفهوم القوة الناعمة إذا قرين صعود مفاهيم النقد والمراجعة للرؤية التي قامت عليها الدولة الحديثة ومشروعها القومي مثلما أن ظهور مفهوم المواطنة متعددة الثقافات هو تراجع عن المواطنة الصلبة القائمة علي التسوية العمياء بين المواطنين، وإقرار بأن المساواة يجب أن تكون مبصرة، وأن تأخذ بعين الاعتبار التنوع العرقي والديني والثقافي كي يمكن بناء إجماع وطني متراكب حول المصالح العليا للجماعة السياسية والبنية المركبة للانتماء الوطني ولقيم النفع العام والتمدن في مجتمع سياسي ما. ولا تعني القوة الناعمة التي تقوم علي الإقناع والثقة ورأس المال التاريخي والأخلاقي والمعنوي والريادي والقيادي أن أدوات القوة الصلبة تختفي، لكن القوة الناعمة لها لحظتها المناسبة، وهي في الغالب تعمل في إطار من التبادل والتوافق مع أدوات القوة الصلبة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وإلا كانت النعومة مرادفة للضعف والعجز، فلا تكون بذلك خيارا بل تكون اضطرارا، وهو ما يفقدها في الغالب قوتها حتي في بعدها الرمزي، فتندرج تحت بند العلاقات العامة أكثر منها العلاقات السياسية بمعناها المركب، بله العلاقات الدولية بالمفهوم العلمي الدقيق. مصر تواجه الآن محنة قاسية هي تراجع دورها الإقليمي وغياب تخطيط واضح وعاقل وطويل النفس للأمن القومي (اتضح في ارتباك التصرف في الأزمة مع دول حوض النيل بما يهدد نصيب مصر في المياه)، وقد تفرض الظروف الدولية والإقليمية والداخلية علي دولة ما التراجع عن صدارتها في ريادة منطقة أو قيادتها لكن الأخطر هو أن تفقد الرؤية وتحديد الأولويات ويصيب صانع القرار حالة من غياب الرؤية للواقع فتختل أولوياته ويبدأ في التصرف وكأن التحديات الكبري التي يواجهها الوطن داخلياً وخارجياً لا وجود لها بزعم أنه يدعم القوة الناعمة، وكأنه في عالم آخر غير العالم الذي يعيش فيه الناس كل يوم في نفس الدولة، بما يخلق فراغا سياسياً مرعباً وخطراً. من حق القيادة السياسية أن تقابل من تحب، ولكن عليها أن تميز بين الحياة الشخصية وبين الاستقبال الرسمي الذي تغطيه الجرائد.ومن حق الناس أن تحاسب القيادة علي تحديد أولوياتها خاصة لو كانت خياراتها العامة تمس حياة الناس لأنه يعني أن تتراجع الأولويات ويصعد لقمة الأجندة «الفرعي» من الأمور. تعجبت في مقال سابق منذ ما يزيد علي العام عن الحكمة من تصعيد الحملة الإعلامية ضد المقاومة في جنوب لبنان ورموزها السياسية في حين استقبل الرئيس بأريحية شديدة سمير جعجع الذي له تاريخ يعرفه المواطن العربي جيدا، ورأيي أنه ما كان لهذا الرجل أن يطأ بقدمه مقر رئاسة الجمهورية المصرية أبدا. وعدت للتعجب واندهشت حين وجدت صورة الرئيس مع الممثل طلعت زكريا الذي قام ببطولة فيلم عن طباخ الرئيس ثم مر بمحنة صحية حرص الرئيس خلالها علي السؤال عنه، في حين لم يسأل عن رموز سياسية واجتماعية لا تقل أهمية عن السيد طلعت زكريا. وفي الوقت الذي يغلي فيه الشارح باحتقان طائفي يقابل الرئيس مجموعة من الفنانين تصدرت صورهم الصفحة الأولي للجرائد الحكومية، في حين نقترب من انتخابات كان الأولي والأوفق أن يجتمع برموز الأحزاب السياسية التي ستدخلها ويعلن دعمه لحرية ونزاهة العملية الانتخابية والتزامه بالتحول الديمقراطي الذي تعثر في ظل حكمه الطويل لتغدو مصر دولة بوليسية بامتياز، سيسافر لافتتاح أكاديمية مصر للفنون في إيطاليا.. تحديدا الآن. ما نشاهده ليس قوة ناعمة، بل دولة رخوة تزداد قيادتها بُعدا عن الواقع وغربة عن الشارع أكثر فأكثر. تباً.. تباً.