الأوضاع المتغيرة في عالم اليوم, فرضت علي الدول استيعاب قيمة الأخذ بما أصبح يسمي بالقوة الذكية, ضمن ممارسات أساليب السياسة والحكم, إدراكا منها أن القوة الذكية هي الطريق في عالم متغير إلي نجاح الحكم في بلوغ الهدف الذي يضع سياساته لبلوغه, فإما أن ينجح, أو يقابل بحائط صد. والقوة الذكية مصطلح في العلاقات الدولية, تعني القدرة علي المزج بين القوة الماديةHardPower والقوة الناعمةsoftPower في إطار استراتيجية واحدة. وتتضمن الاستخدام في إطار استراتيجي للدبلوماسية, والاقناع, وممارسة القوة والنفوذ بوسائل تكون لها الشرعية السياسية, والاجتماعية, وقد شاع المصطلح بعد غزو العراق عام2003, وصار له رواج أكثر من ذي قبل, كرد فعل علي السياسة الخارجية الهجومية لإدارة بوش والمحافظين الجدد, وقد استخدمته هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية في كلمة لها في يناير2009, وبصفة عامة أصبح معناها يتلخص في قدرة الحاكم علي الفوز باقتناع الناس بالسياسة التي يتخذها. وأصل هذا التحول يرجع إلي أن دخول العالم عصر ثورة المعلومات الذي نعيشه اليوم, تحت تأثير جميع أدوات ووسائل هذه الثورة, قد جعل المنافسة, هي المبدأ الأساسي الذي يحكم علاقات الدولة, سواء بالخارج, أو بالداخل. ففي الخارج تدور المنافسة علي اكتساب النفوذ والمكانة, وفي الداخل فإن الدولة لم تعد تنفرد بالساحة السياسية, لكنها داخل منافسة في مواجهة مجتمع مدني متنوع ونشيط, وفضائيات, وتدفق معلومات بغير حدود. فالعالم قد تداخل في بعضه, وصارت العيون نافذة عبر حدود وهمية, تطل علي بعضها, ترقب وترصد وتقارن وتحلل, ثم تستخلص لنفسها رؤية وموقفا. لهذا لم تقتصر سياسات التعامل مع هذا التحول باعتباره مجرد ظاهرة, يلحق بها تطور في السياسات, وإنما وضعت له استراتيجيات تقوم علي تعظيم مصداقية الحكمة, وإضعاف مصداقية منافسيه, وذلك بالتركيز علي الوضوح الكلي لخلفيات صدور أي قرار, أي بتوفير المعلومات الحقيقية لأسباب صدور القرار. ولابد لنجاح هدف الفوز باقتناع الناس, أن يسبقه حرص علي فهم تفكير المستهدفين بهذه السياسات, وليس مجرد إعلامهم بالقرار. إن عصر ثورة المعلومات قد هدم نظام الإعلام الذي يمشي في طريق من اتجاه واحد, كان يمكن فيه للدولة أن تحتكر المعلومة, وان تغلف قرارها مبررات تختارها, وقتها لم يكن متاحا للرأي العام العلم بالأشياء من خلال قنوات مفتوحة, يطل منها علي جميع أبعاد الأحداث. بينما اليوم تعددت القنوات والنوافذ, وهي مفتوحة علي مصاريعها, والعلم لاتحجبه رقابة وحواجز. نتيجة لهذه التحولات أصبح مايحكم العلاقة بين صانع القرار والرأي العام, أنه صار فعليا شريكا في حوار تفاعلي, ليس مجرد متلق في شيء أشبه بالتلقين في المدارس. وهذا التحاور لايؤدي إلي الاقتناع بالسياسة المعلنة, بل ينتج عنه بعد ذلك حشد مجتمعي تلقائي لمساندة السياسة, التي اتخذتها الدولة, وتوفير مناخ النجاح لها. أما إذا كان هناك شح في المعلومات, فسوف تسرع أطراف أخري منافسة لكي تعوضه إما بمعلومات صحيحة, أو باجتهادات قد تتجاوز الحقيقة, أو تفتئت عليها, حسب الجهة التي يهمها أن تملأ هذا الفراغ, بما يخدم سياستها هي. كان هذا التطور هو جزء من التغيير في مفهوم قوة الدولة, والذي أخذ يستقر في العلوم السياسية, وفي الفكر السياسي للدول, والذي يري أنه في عصر ثورة المعلومات, لم تعد القوة العسكرية هي المعيار الأول لتحديد من هي الدولة الأقوي, بعد أن دخلت مكونات أخري في هذا المفهوم, منها: صعود القوة الناعمة, بما تعنيه من حشد القدرات والمهارات الثقافية والابداعية والقدرة الاقتصادية التنافسية, التي يتم الوصل اليها بامتزاج سياسات التنمية الاقتصادية, بالبحوث والكشوف العلمية, بالاضافة إلي ما أصبحت تمثله القدرة الاقتصادية التنافسية, باعتبارها علي قمة عناصر الأمن القومي للدولة ثم توافر المعلومات, وامتلاك المعرفة والتي تتجاوز حدود المعلومات, لكونها تعني الإحاطة بما يجري في العالم, من تحولات, واستشراف آفاق المستقبل وتجهيز سياسات تستعد بها للتعامل مع ماهو محتمل وفق استراتيجية متكاملة واضحة المعالم. ان التغيير هو فلسفة العصر وقاعدة عمله, لأن العالم يتحول من حول الجميع, وإذا لم تلاحقه الدول بتغيير ما هو تقليدي ومزمن, فإن عجلة التغيير بإيقاعها السريع سوف تطوح بها بعيدا عن دورانها. وأن الصراع التنافسي في العالم والذي كانت تحكمه الايديولوجية أثناء سنوات الحرب الباردة, قد أخلي ميدانه, لمبدأ المنافسة الذكية التي صارت تحكم علاقات اليوم.. وهي منافسة لاتقدر عليها أي دولة, إلا بفهم كيفية الارتقاء بعناصرها البشرية, واستخدام أفضل مافي مخزونها من العقول, وبوضع استراتيجية ترتقي بها: علما وتعليما, وثقافة واقتصاد وإنتاجا, وتحقيق أقصي فائدة من التنوع في الرؤي والأفكار.