لماذا تحول تيارات التغيير التاريخية في العالم, اتجاهها كلما اقتربت من سواحل العالم العربي, وترتد مبتعدة, علي عكس مايحدث في أي منطقة أخري في العالم؟ هذا السؤال استوقف المهتمين بالدراسات السياسية في المناطق الإقليمية في العالم . والذين رصدوا ما أحدثته هذه التيارات من تفاعلات إيجابية مع الواقع القائم في هذه المناطق الأخري, حركت الساكن فيها, ووفقت أوضاعها مع المتغيرات في العالم. جاء السؤال في سياق اتفاق كثير من المفكرين السياسيين في العالم, من ان الشرق الأوسط, سيكون محل اهتمام السياسات العالمية لعشرات السنين المقبلة, وهو نفس التعبير الذي استخدمه قبل خمس سنوات نيكولاس بيرنز وكيل الخارجية الأمريكية السابق. وبحكم ان المنطقة تتفاعل فيها الآن مؤثرات سوف تفاجيء الجميع بنتائجها, بسبب مساعي دول إقليمية لإعادة صياغة أوضاع المنطقة في صورة متغيرة, تبعا لأهداف ومصالح هذه الدول, بصرف النظر عما إذا كانت ستنجح في مساعيها أم لا. وفي هذا السياق ظهر مصطلح صعود وهبوط دول صغيرة ومتوسطة, بعد ان كان هذا المصطلح يطلق علي القوي الكبري, خاصة منذ أن شاع عن طريق المؤرخ الأمريكي بول كنيدي, في منتصف الثمانينيات, بكثافة صعود وهبوط القوي الكبري. وتوالي الدراسات والمؤلفات بعد ذلك حول نفس المعني, وهي تتابع مايجري في دول مختلف أقاليم العالم:[ الشرق الأوسط آسيا أمريكا اللاتينية وافريقيا], وذلك طوال السنوات العشرين الماضية, منذ زوال الاتحاد السوفيتي, وانتهاء الحرب الباردة, وما تأكد من أن الدول التي نجحت في تحقيق تقدم اقتصادي مبهر, هي التي استوعبت مفاتيح النظام الدولي الجديد, ووضعت لنفسها في الحال استراتيجيات, للسنوات العشرين اللاحقة. كان الشرق الأوسط منطقة لافتة لنظر المتابعين والدارسين والمحللين, وهي تتابع ظواهر تشكل جزءا من ملامح المشهد المستقبلي وكان من بينها: ظهور مواقع في هذه المنطقة يطلق عليها وصف الدول الفاشلةFailedstates. حددتها في أربع دول عربية تعاني التأزم والتشرذم داخليا وكلها أنبتت بذرة الفشل فيها حكما ديكتاتوريا فرديا, عوقها تاريخيا وحضاريا, وأشاعت فيها التفكك والانقسامات. وبدأت تظهر الظواهر التالية: توقف عن متابعة ركب التقدم الذي يتأسس علي إحراز القدرة الاقتصادية التنافسية, والتي دخل مفهومها في الفكر السياسي في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين, كأهم مكونات الأمن القومي للدولة, والأساس لاكتسابها نفوذها ومكانتها إقليميا ودوليا. وهي القدرة المبنية علي قدرة إنتاجية تتنافس بصادراتها في السوق العالمية, ترافقها وتدعمها بحوث وكشوف علمية متطورة تخرج الي العالم وتضيف إليه وتلاحق احتياجات العصر. ساعد ماسبق, وجود فراغ استراتيجي في المنطقة العربية, دفع دولا غير عربية, لاقتحام مساحة الفراغ, وممارسة سياسات وأدوار تهدف مستقبليا, لتغيير الهوية العربية للمنطقة, وإفساح المجال لوجود هذه القوي, بهيمنة إقليمية, وطمس طابعها العربي. أدي غياب الرؤية الاستراتيجية, والمشروع القومي, وشحوب الهدف, الي تشكيك في الهوية, وزعزعة غريزة الانتماء, والي تغييرات في النسيج الاجتماعي في الداخل, تفتت الصف الواحد الملتف حول هدف واحد, والي ظهور شراذم من المواقف, التي تتصارع مع بعضها البعض, وتظهر أحيانا, في صور طائفية ومتعصبة. جمود نظام التعليم وتخلفه, وانفصاله عن الواقع المعاش في الداخل, وعن التطور المتسارع في العالم, وثباته علي مفهوم التلقين وليس استثارة الخيال, في حين ان العالم منذ انتقاله من زمن الثورة الصناعية, الي عصر ثورة المعلومات, قد أصبح معيار التقدم فيه, مبنيا علي اطلاق الخيال وإنتاج الأفكار. ان ملاحقة العصر لم تعد مقصورة علي اهتمام دول صغيرة, بأن تجد لنفسها مكانا متميزا في هذا العالم, بل ظهر ايضا الاهتمام بنفس القدر لدي الدول الكبري والمتقدمة, حتي لاتخسر مواقعها السياسية والحضارية في النظام الدولي الجديد, فهي عكفت علي دراسة تحولات النظام العالمي, ومايحمله لها مستقبلا من فرص وتحديات.. وراحت تعيد صياغة استراتيجيتها آخذة في الاعتبار الاعداد تخطيطا وتسليحا لحروب المستقبل التي وجدت أنها ستكون مختلفة عن حروب الماضي والحاضر, والعمل علي تعزيز مكونات قوتها بعد أن صعدت عناصر أخري الي جانب القوة العسكرية, الي قمة مكونات قوة الدولة, كما راحت تعيد النظر في أنظمتها التعليمية, والاقتصادية, فضلا عن تحديد توجهات سياستها الخارجية, بعد ظاهرة صعود وهبوط دول صغيرة.. أو كانت صغيرة. ويبقي السؤال: ما الذي يحول دون استيعاب العالم العربي, لما يجري في داخله من تفاعلات, ومن حوله من تحولات, ويبقيه ساكنا يراوح مكانه, بينما العالم في حركة وتطور ونهوض؟! المزيد من مقالات عاطف الغمري