قادتني الظروف إلي مدينة بوسطن الأمريكية, حيث يوجد أكبر تجمع أكاديمي متميز في العالم ينتشر بين مجموعة من جامعات القمة المعروفة التي لأسباب متنوعة يوجد بها أقسام لدراسة الشرق الأوسط وأحواله. وكما هي العادة فإن الوجود في مثل هذا التجمع يفرض لقاءات شتي يكون فيها الشرق الأوسط, والصراع العربي الإسرائيلي, هما دوما موضوع الساعة. وهكذا كنا جماعة أكاديمية جاءت من مشارب شتي, وتنتمي لجنسيات مختلفة, ولكن موضوعها الأثير دائما هو الصراع العربي الإسرائيلي, أو القضية الفلسطينية, أو سمها ما شئت, حيث بات, مثل صراعات تاريخية في العالم, مادة علمية لها محللوها وجماعاتها التي تدرس وتؤلف لمنظومة علمية متكاملة تضم مؤرخين وعلماء سياسة واجتماع ومجموعة لابأس بها مهتمة بالطب النفسي. كان الأمر أشبه بذلك الاستوديو التحليلي الذي عرفته جماعة كرة القدم في أثناء نهائيات كأس العالم الأخيرة; وعلي الأرجح أن البعض كان متأثرا بما جري خلال الأسابيع الأخيرة, وبالتحديد منذ حادثة السفينة التركية الحرية وتوابعها من حمي دبلوماسية وسياسية وقعت تحت تهديد سفن أخري تنتمي إلي دول وأمم أخري أخذت تجهز نفسها للوصول إلي قطاع غزة المحاصر. وبينما كانت دراما السفن مغرية بتتبع أحوال السفن التالية التي كانت أخبار بعضها آتية من محطات مثيرة في إيران وليبيا, فإن ما كان مغريا أكثر هو البحث عن حل الصراع كله الذي طال لما زاد علي قرن من الزمان. ولما كانت الأنباء آتية من القاهرة طازجة حول زيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتانياهو, والرئيس الفلسطيني أبو مازن, والمبعوث الأمريكي جورج ميتشل; فقد وجد المتفائلون فرصتهم للحديث عن بداية, حتي لو كانت متأخرة, لعملية السلام حينما تبدأ المفاوضات المباشرة; أما المتشائمون فقد وجدوا في الواقعة ذاتها دليلا علي فساد الأمر كله, لأن نيتانياهو عرض علي الرئيس مبارك خريطة للحل كانت محل رفض فوري أو هكذا قيل وهكذا فشلت المباحثات المباشرة بعد فشل أكيد للمباحثات غير المباشرة أيضا. ولكن الأكاديميين في العادة مغرمون بأصول المسائل, وجاءت القنبلة عندما طرح السؤال لماذا طال الصراع العربي الإسرائيلي كل هذا الوقت, وعلي مدي أكثر من قرن من الزمان بدا الصراع وكأنه واحد من الأمور الأبدية, كالقدر المحتوم والقضاء النافذ. ومن كلام الجمع فإن التناقض العربي الإسرائيلي كانت فيه دائما طاقات كامنة أبقته مشتعلا منذ نهاية القرن التاسع عشر, وخلال القرن العشرين, حتي وصل إلي القرن الحادي والعشرين. هذه الطاقة أبقته حيا وساخنا خلال العصر الاستعماري وحركات التحرر الوطني والسعي نحو حق تقرير المصير. وبعد أن انتهي عهد الاستعمار كيف الصراع نفسه مع ظروف الحرب الباردة وما بعدها, وفي كل مرة كان قادرا علي أن يعيد تشكيل نفسه لكي يناسب النظام الدولي السائد, سواء كان هذا النظام قائما علي التنافس أو التعاون أو كليهما. وكما حال الحية أو الزواحف التي تتلون بالمحيط الذي توجد فيه, أعاد الصراع تشكيل نفسه وفق ظروف عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر حينما اشتعلت ثلاث حروب: الانتفاضة الثانية, وحرب في لبنان, وثالثة في غزة. وعندما أضيف صراع الحضارات إلي القائمة العالمية, كان الصراع جاهزا لاستيعاب العلاقات الملتهبة الجديدة, حيث كان الدين حاضرا منذ بداية الصراع, وجاءت المناسبة لكي توقظ فتنة لم تكن نائمة أبدا, وإنما كانت واقفة في انتظار لحظة الوجود بذلك القدر من الزخم والاندفاع الهادر. هذه القدرة علي الاستمرار, كان التدخل الدولي المستمر من القوي الدولية الكبري سببا في إشعالها; ففي وقت من الأوقات كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتين المتورطتين, وفي أوقات أخري صارت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي تقدمان السلاح والمساعدات الاقتصادية والسياسية, وأشكالا مختلفة من النشاط الدبلوماسي. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد بقيت, واختفي الاتحاد السوفيتي, فإن روسيا لم تختف تماما, وحاولت الصين والهند دوما الاقتراب من الموضوع, وفي الوقت الراهن بات لإيران وتركيا أصوات مسموعة. وربما كان الصراع العربي الإسرائيلي هو الصراع الوحيد في العالم الذي له لجنة رباعية تضم الولاياتالمتحدةوروسيا والاتحاد الأوروبي أي كل من شاركوا في الصراع من قبل, ومعهم الأممالمتحدة التي شهدت ساحاتها فيما يتعلق بهذا الصراع أكبر كمية من القرارات عرفها صراع في التاريخ. والحقيقة أن المنظمة الدولية لم تكتف بإصدار القرارات, وإنما كانت جاهزة لتشكيل تنظيمات دولية جديدة من أجل التعامل مع صراع لا يسعي أحد لحله عندما أنشأت الوكالة الدولية لغوث اللاجئين وقوات الطوارئ الدولية ومعها طوائف متعددة من المراقبين والملاحظين الذين يأتون إلي المنطقة بعد اشتعال الحريق وانطفائه. والحقيقة, هي أن الصراع كان متعدد المستويات, وتوالت عليه عناصر دولية وإقليمية ومحلية اشتبكت مع بعضها في صراع حير المؤرخين وعلماء السياسة من حيث درجة التعقيد فيه, وحجم التكلفة المادية والمعنوية حتي الأخلاقية, ولا تنس تكلفة الفرصة البديلة, التي برغم فداحتها, فإن الصراع لم يظهر أبدا في حالة من الإجهاد التي تكون مقدمة عادة لموقف تجري فيه التسوية. وبشكل ما فإن الصراع تحول في النهاية إلي تراجيديا وضعته في المقدمة التي يجري فيها سباق التسلح ليس فقط التقليدي, ولكن أيضا الذي يشمل أسلحة الدمار الشامل والتهديد باستخدامها. وكان معني ذلك أن المهمة التي كرست دول العالم الثالث نفسها لها بعد الاستقلال وهي التنمية واللحاق بالدول المتقدمة ما لبثت أن أخذت لنفسها في الدول العربية مكانا خلفيا ضمن أولويات أمنية ملحة; وبعد فترة اختلط الأمر حتي لم يعد معروفا عما إذا كان غياب التنمية نتيجة استمرار الصراع, أم أن العكس هو الصحيح. التصور هكذا يقطع بأن ما يجري الآن وما يقال عن بداية أخري لعملية السلام ليس إلا محض تخيلات, وما يقال عن أن أوباما سيكون جاهزا بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس ليس إلا محض أمان ورغبات توجد لذة في الحديث عنها, ولكن الكل يعلم أنها من المستحيلات. ولكن حوارات بوسطون لم تكن محملة بالتشاؤم والمرارة فقط, ولكن كان هناك من لديه قول آخر أساسه أن الصراع كان فيه دائما تيار ساع نحو السلام, قد يضمر أحيانا أو يضعف أحيانا أخري, ولكنه كان موجودا في كل الأوقات, بل إنه في لحظات بعينها كانت لديه القدرة علي الانطلاق. ولذا فإنه علي الأقل لايوجد سيناريو واحد للتعامل مع الموضوع, وإنما سيناريوهات عدة, علي الحصيف أن يبحث حول أي منها يجب الدفع باتجاهه. السيناريو الأول, عبثي يري أن هذه القضية انتهت أصلا, وأن كل ما يحدث الآن علي صعيد الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لبدء المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين لن ينتج أي تداعيات إيجابية, لسببين: أولهما, أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تري أن الوضع الحالي المتمثل في الانقسام الحاد بين حركة فتح في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة مثالي بالنسبة لها, ومن هنا حاولت السير في اتجاهين متوازيين: عدم تقديم أي تنازلات رئيسية في الملف الفلسطيني بسبب عدم اقتناعها بجدوي, أو ربما بحتمية ذلك فضلا عن إمكانية أن تتسبب هذه الخطوة في انفراط عقدها نتيجة وجود تيارات متشددة داخلها ترفض تقديم أي تنازلات حقيقية في هذا الملف, والسعي في الوقت نفسه إلي كسب الوقت مع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي بدأت في منح الأولوية لقضايا وملفات أخري علي حساب القضية الفلسطينية, خصوصا مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر2010, حيث تتعرض الإدارة الأمريكية إلي ضغوط من داخل الحزب الديمقراطي لتقليص حدة التوتر والخلافات مع إسرائيل, بسبب تصاعد الاستياء الأمريكي من السياسات التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية. وثانيهما, صعوبة التوصل إلي مصالحة وطنية بين حركتي حماس و فتح في الوقت الحالي تنهي الصراع القائم بينهما, لاسيما بسبب تبني كل منهما برنامجا سياسيا مختلفا عن الآخر, فضلا عن دخول قوي إقليمية متعددة ذات مصالح متباينة علي خط ضبط حدود التفاعل بين الطرفين بما يخدم مصالحها وأجندتها الإقليمية في المقام الأول. إلي جانب ذلك, فإن ما يضفي صعوبات أخري علي إمكانية التوصل إلي حل للقضية الفلسطينية, هو أن النجاح في تحقيق ذلك سوف يتمخض عنه ظهور دولة فلسطينية جديدة طبقا لمبدأ حل الدولتين الذي سيواجه إشكاليات عديدة بدوره, أهمها ظهور مخاوف من التداعيات المحتملة لتأسيس الدولة الفلسطينية, خصوصا ما يتعلق بمنحها صلاحيات للقيام بأداء مهامها علي صعيد حماية سيادتها وأمنها القومي وتطبيق القانون علي مواطنيها وغيرها, وهذا المبرر تحديدا هو ما جعل إسرائيل تصر علي أن تكون الدولة الجديدة, في حالة إقامتها, دولة منقوصة السيادة بحيث لا تشكل تهديدا لأمنها القومي. هذا السيناريو يمكن أن يدعم دعوة بعض الاتجاهات داخل إسرائيل إلي جعل إسرائيل دولة يهودية خالصة من خلال نقل الفلسطينيين الذين يعيشون داخلها إلي المستوطنات الإسرائيلية أو إلي الدولة الجديدة وهو ما سينتج مشكلة جديدة في مواجهة هذه الدولة. إلي جانب أن الدولة الفلسطينية الوليدة يمكن أن تتحول إلي كانتونات, بسبب وجود الكتل الاستيطانية الكبري وشبكات الطرق المرتبطة بها والحواجز العسكرية إلي جانب الجدار الفاصل, وهو ما دفع بعض الاتجاهات إلي تسمية حل الدولتين ب حل الكانتونات. من هنا ظهرت رؤي إسرائيلية وعربية ترفض خيار الدولتين: الرؤية الإسرائيلية تركز علي أن فكرة الدولة الفلسطينية تفتقد إلي أي منطق ديموجرافي أو جغرافي, وأن إسرائيل تسرعت في تبنيها دون دراسة إمكانية تحقيقها وتداعيات ذلك عليها, فضلا عن أن هذا الحل يمكن أن يؤدي إلي سيطرة حماس علي الضفة الغربية إلي جانب قطاع غزة بما يضيف إلي رصيدها ولا يخصم منه وهو ما لا يصب في مصلحة تل أبيب. الرؤية الفلسطينية العربية, تري أن الالتزام بمبدأ حل الدولتين بشكله الحالي فيه إجحاف بالحقوق الفلسطينية, ومحاولة للالتفاف علي مبادئ الشرعية الدولية, ومن ثم فإن الأجدي, وفقا لهذه الرؤية, هو الاستعاضة عن إقامة الدولة الفلسطينية بالحفاظ علي ثوابت القضية الفلسطينية, لاسيما أن الاتفاقات التي وقعت في إطار المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية مثل اتفاق أوسلو إلي جانب الأفكار المطروحة في هذا السياق مثل خطة خريطة الطريق لم تنجح في التوصل إلي حلول جذرية للقضية الفلسطينية. السيناريو الثاني, هو إقامة ثلاث دول. هذا السيناريو يمكن أن يتفرع منه سيناريوهان: الأول, يتعلق بتأسيس ثلاث دول هي: إسرائيل, والضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح, وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس. والثاني, يتصل بما يسميه البعض ب بينولوكس ثلاثي تشبيها بدخول ثلاث دول أوروبية هي: هولندا ولوكسبورج وبلجيكا في وحدة اقتصادية عام1958 تحت مسمي مشروع بينولوكس, وهو اسم اشتق من أسماء الدول الثلاث. هذه الدول الثلاث تتكون من: دولة فلسطينية, ودولة إسرائيلية, وكونفيدرالية فلسطينية أردنية. وقد بدأت بعض الأوساط في الترويج لهذه الفكرة الأخيرة, عندما طرحت أطرا إجرائية لتنفيذها مثل تشكيل قوات كونفيدرالية تتولي مهام حماية حدود هذه الكونفيدرالية مع إمكانية إشراك قوات دولية لدعمها, فضلا عن فتح الحدود كاملة بينها مع احتفاظ كل منها بنظامها السياسي وقوانينها المحلية. وبالطبع, فإن هذا السيناريو الأخير يواجه برفض حاسم من جانب الأردن تحديدا, حيث أكد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني, في كلمة ألقاها بمناسبة عيد الجيش والثورة العربية الكبري والجلوس الملكي في8 يونيو2010, أن بلاده لن تقبل تحت أي ظرف من الظروف بأي حل للقضية الفلسطينية علي حساب الأردن, ولن يكون للأردن أي دور في الضفة الغربية, مشيرا في الوقت ذاته إلي أنها لن تتخلي عن واجبها ودورها في دعم الفلسطينيين حتي يقيموا دولتهم المستقلة. السيناريو الثالث, هو إقامة دولة واحدة دعا البعض إلي أن تكون ديمقراطية علمانية تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين في بوتقة واحدة, وتحكمها أطر قانونية ودستورية باعتبارها الحل الأكثر ملاءمة لتسوية القضية الأطول في العالم. وفي رؤية هؤلاء فإن سيناريو الدولة الواحدة سيتحقق آجلا أو عاجلا, بسبب عدم بروز مؤشرات في الأفق توحي بحلحلة الجمود الحالي في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين, فضلا عن وجود كتل المستوطنات الكبري في الضفة الغربية التي تجعل من فكرة إقامة دولة فلسطينية أمرا غير منطقي. لكن هذه التوجهات تواجه صعوبات عديدة بدورها, أهمها إصرار بعض التيارات المتطرفة داخل إسرائيل علي ضرورة تطهير الدولة الإسرائيلية من أي عنصر غير يهودي, فضلا عن معارضتها لمبدأ الديمقراطية العلمانية لاعتبارات ديموجرافية خاصة بغلبة العنصر العربي, الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلي سيطرة الأغلبية العربية علي مقدرات هذه الدولة. وقد دفعت هذه الصعوبات البعض الآخر إلي الدعوة لإقامة نظام ديمقراطية توافقية. لكن في كل الأحوال, فإن هذا السيناريو في مجمله يواجه إشكالية مهمة تتمثل في إمكانية أن يحول القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلي قضية تمييز عنصري, وهو بالطبع ما سترفضه إسرائيل لأنه سيعرضها إلي اتهامات بأنها نظام عنصري وسيدخل علاقاتها مع المجتمع الدولي مرحلة من التوتر والتصعيد لاسيما في ظل الرفض الحاسم من جانب الأسرة الدولية للأنظمة العنصرية. وفوق ذلك, فإن الدولة الجديدة يمكن أن تتحول, في حالة تحقق هذا السيناريو إلي دولة ملجأ نتيجة رغبة عدد كبير من اللاجئين والمهاجرين في العودة إلي أراضيهم من جديد, وهو ما سيضيف إشكاليات جديدة في مواجهة سيناريو الدولة الواحدة. السيناريوهات الثلاثة وتفريعاتها ليست جديدة تماما, ولكنها في مناخ التفكير الأكاديمي الهادئ تحمل رؤي وبدائل لواقع ربما لم يصل إلي طريق مسدود بعد, ولكنه لا يوحي إطلاقا بوجود باب مفتوح. وربما كانت المشكلة قائمة في أن الباحثين عن حل يتغاضون عن حقيقة أن هناك حلا قائما بالفعل وهو التعايش مع الصراع بشكل أو بآخر كما جري طوال أكثر من قرن, جرت فيه مياه كثيرة تحت الجسور, وحتي لو صارت المياه نارا ولهبا فقد عرف العالم كيف يطفئها ويعود إلي حياته الهانئة من جديد. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد