وزير التعليم العالي يؤكد أهمية تنوع الأنشطة الطلابية لذوي الإعاقة بالجامعات    محافظة الدقهلية تواصل فعاليات دمج أطفال دور الرعاية بالمجتمع (صور)    أسعار البيض اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    قمة مصرية روسية اليوم بموسكو لتعزيز العلاقات في مختلف المجالات    لأول مرة.. بابا الفاتيكان أمريكيا| وترامب يعلق    خلافات عميقة وتهميش متبادل.. العلاقة بين ترامب ونتنياهو إلى أين؟    ريال مدريد يستعد لإعلان تنصيب ألونسو خلفًا ل أنشيلوتي    إحباط محاولة غسل 50 مليون جنيه من تهريب المخدرات وضبط عنصرين أجنبيين بمدينة نصر    5 حالات اختناق بمنزل وحادث اعتداء على سوداني بالجيزة    ضبط عناصر إجرامية بحوزتهم مخدرات بقيمة 3.5 مليون جنيه    عرض فيلم "Only the River Flows " بمكتبة مصر الجديدة العامة    بوتين: روسيا ستبقى قوة عالمية غير قابلة للهزيمة    وفد «محلية النواب» يتفقد الخدمات الصحية لمستشفى الناس بشبرا الخيمة (صور)    احتفالات روسيا بالذكرى ال 80 للنصر العظيم..حقائق وأرقام    مصلحة الضرائب: 1.5 مليار وثيقة إلكترونية على منظومة الفاتورة الإلكترونية حتى الآن    فاركو يواجه بتروجت لتحسين الوضع في الدوري    ماركا: تشابي ألونسو سيكون المدرب الجديد لريال مدريد    إنفانتينو يستعد لزيارة السعودية خلال جولة ترامب    وزير الري: سرعة اتخاذ قرارات طلبات تراخيص الشواطئ تيسيرا ودعما للمستثمرين    وزير الإسكان: بدء تنفيذ مشروع «ديارنا» السكني بمدينة القاهرة الجديدة    جدول امتحانات خامسة ابتدائي الترم الثاني 2025 بالقليوبية «المواد المضافة للمجموع»    بسبب الأقراص المنشطة.. أولى جلسات محاكمة عاطلين أمام محكمة القاهرة| غدا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني للطلبة المصريين في الخارج غدا    الموافقة على الإعلان عن التعاقد لشغل عدة وظائف بجامعة أسيوط الأهلية (تفاصيل)    وزير المالية: الاقتصاد المصري يتحرك بخطى جيدة ويوفر فرصًا استثمارية كبيرة    مروان موسى ل«أجمد 7» ألبومى الجديد 23 أغنية..ويعبر عن حياتي بعد فقدان والدتي    حفيدة الشيخ محمد رفعت: جدى كان شخص زاهد يميل للبسطاء ومحب للقرآن الكريم    الجيش الأوكراني: تصدينا خلال ال24 ساعة الماضية لهجمات روسية بمسيرات وصواريخ    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    أسعار الدولار أمام الجنيه المصري.. اليوم الجمعة 9 مايو 2025    أحمد داش: الجيل الجديد بياخد فرص حقيقية.. وده تطور طبيعي في الفن    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    الهباش ينفي ما نشرته «صفحات صفراء» عن خلافات فلسطينية مع الأزهر الشريف    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من بوسطن
حوارات بوسطنية عن القضية الفلسطينية
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 07 - 2010

قادتني الظروف إلي مدينة بوسطن الأمريكية‏,‏ حيث يوجد أكبر تجمع أكاديمي متميز في العالم ينتشر بين مجموعة من جامعات القمة المعروفة التي لأسباب متنوعة يوجد بها أقسام لدراسة الشرق الأوسط وأحواله‏. وكما هي العادة فإن الوجود في مثل هذا التجمع يفرض لقاءات شتي يكون فيها الشرق الأوسط‏,‏ والصراع العربي الإسرائيلي‏,‏ هما دوما موضوع الساعة‏.‏ وهكذا كنا جماعة أكاديمية جاءت من مشارب شتي‏,‏ وتنتمي لجنسيات مختلفة‏,‏ ولكن موضوعها الأثير دائما هو الصراع العربي الإسرائيلي‏,‏ أو القضية الفلسطينية‏,‏ أو سمها ما شئت‏,‏ حيث بات‏,‏ مثل صراعات تاريخية في العالم‏,‏ مادة علمية لها محللوها وجماعاتها التي تدرس وتؤلف لمنظومة علمية متكاملة تضم مؤرخين وعلماء سياسة واجتماع ومجموعة لابأس بها مهتمة بالطب النفسي‏.‏
كان الأمر أشبه بذلك الاستوديو التحليلي الذي عرفته جماعة كرة القدم في أثناء نهائيات كأس العالم الأخيرة‏;‏ وعلي الأرجح أن البعض كان متأثرا بما جري خلال الأسابيع الأخيرة‏,‏ وبالتحديد منذ حادثة السفينة التركية الحرية وتوابعها من حمي دبلوماسية وسياسية وقعت تحت تهديد سفن أخري تنتمي إلي دول وأمم أخري أخذت تجهز نفسها للوصول إلي قطاع غزة المحاصر‏.‏
وبينما كانت دراما السفن مغرية بتتبع أحوال السفن التالية التي كانت أخبار بعضها آتية من محطات مثيرة في إيران وليبيا‏,‏ فإن ما كان مغريا أكثر هو البحث عن حل الصراع كله الذي طال لما زاد علي قرن من الزمان‏.‏ ولما كانت الأنباء آتية من القاهرة طازجة حول زيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتانياهو‏,‏ والرئيس الفلسطيني أبو مازن‏,‏ والمبعوث الأمريكي جورج ميتشل‏;‏ فقد وجد المتفائلون فرصتهم للحديث عن بداية‏,‏ حتي لو كانت متأخرة‏,‏ لعملية السلام حينما تبدأ المفاوضات المباشرة‏;‏ أما المتشائمون فقد وجدوا في الواقعة ذاتها دليلا علي فساد الأمر كله‏,‏ لأن نيتانياهو عرض علي الرئيس مبارك خريطة للحل كانت محل رفض فوري أو هكذا قيل وهكذا فشلت المباحثات المباشرة بعد فشل أكيد للمباحثات غير المباشرة أيضا‏.‏
ولكن الأكاديميين في العادة مغرمون بأصول المسائل‏,‏ وجاءت القنبلة عندما طرح السؤال لماذا طال الصراع العربي الإسرائيلي كل هذا الوقت‏,‏ وعلي مدي أكثر من قرن من الزمان بدا الصراع وكأنه واحد من الأمور الأبدية‏,‏ كالقدر المحتوم والقضاء النافذ‏.‏ ومن كلام الجمع فإن التناقض العربي الإسرائيلي كانت فيه دائما طاقات كامنة أبقته مشتعلا منذ نهاية القرن التاسع عشر‏,‏ وخلال القرن العشرين‏,‏ حتي وصل إلي القرن الحادي والعشرين‏.‏ هذه الطاقة أبقته حيا وساخنا خلال العصر الاستعماري وحركات التحرر الوطني والسعي نحو حق تقرير المصير‏.‏ وبعد أن انتهي عهد الاستعمار كيف الصراع نفسه مع ظروف الحرب الباردة وما بعدها‏,‏ وفي كل مرة كان قادرا علي أن يعيد تشكيل نفسه لكي يناسب النظام الدولي السائد‏,‏ سواء كان هذا النظام قائما علي التنافس أو التعاون أو كليهما‏.‏ وكما حال الحية أو الزواحف التي تتلون بالمحيط الذي توجد فيه‏,‏ أعاد الصراع تشكيل نفسه وفق ظروف عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر حينما اشتعلت ثلاث حروب‏:‏ الانتفاضة الثانية‏,‏ وحرب في لبنان‏,‏ وثالثة في غزة‏.‏ وعندما أضيف صراع الحضارات إلي القائمة العالمية‏,‏ كان الصراع جاهزا لاستيعاب العلاقات الملتهبة الجديدة‏,‏ حيث كان الدين حاضرا منذ بداية الصراع‏,‏ وجاءت المناسبة لكي توقظ فتنة لم تكن نائمة أبدا‏,‏ وإنما كانت واقفة في انتظار لحظة الوجود بذلك القدر من الزخم والاندفاع الهادر‏.‏
هذه القدرة علي الاستمرار‏,‏ كان التدخل الدولي المستمر من القوي الدولية الكبري سببا في إشعالها‏;‏ ففي وقت من الأوقات كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتين المتورطتين‏,‏ وفي أوقات أخري صارت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تقدمان السلاح والمساعدات الاقتصادية والسياسية‏,‏ وأشكالا مختلفة من النشاط الدبلوماسي‏.‏ وإذا كانت الولايات المتحدة قد بقيت‏,‏ واختفي الاتحاد السوفيتي‏,‏ فإن روسيا لم تختف تماما‏,‏ وحاولت الصين والهند دوما الاقتراب من الموضوع‏,‏ وفي الوقت الراهن بات لإيران وتركيا أصوات مسموعة‏.‏ وربما كان الصراع العربي الإسرائيلي هو الصراع الوحيد في العالم الذي له لجنة رباعية تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي أي كل من شاركوا في الصراع من قبل‏,‏ ومعهم الأمم المتحدة التي شهدت ساحاتها فيما يتعلق بهذا الصراع أكبر كمية من القرارات عرفها صراع في التاريخ‏.‏ والحقيقة أن المنظمة الدولية لم تكتف بإصدار القرارات‏,‏ وإنما كانت جاهزة لتشكيل تنظيمات دولية جديدة من أجل التعامل مع صراع لا يسعي أحد لحله عندما أنشأت الوكالة الدولية لغوث اللاجئين وقوات الطوارئ الدولية ومعها طوائف متعددة من المراقبين والملاحظين الذين يأتون إلي المنطقة بعد اشتعال الحريق وانطفائه‏.‏
والحقيقة‏,‏ هي أن الصراع كان متعدد المستويات‏,‏ وتوالت عليه عناصر دولية وإقليمية ومحلية اشتبكت مع بعضها في صراع حير المؤرخين وعلماء السياسة من حيث درجة التعقيد فيه‏,‏ وحجم التكلفة المادية والمعنوية حتي الأخلاقية‏,‏ ولا تنس تكلفة الفرصة البديلة‏,‏ التي برغم فداحتها‏,‏ فإن الصراع لم يظهر أبدا في حالة من الإجهاد التي تكون مقدمة عادة لموقف تجري فيه التسوية‏.‏ وبشكل ما فإن الصراع تحول في النهاية إلي تراجيديا وضعته في المقدمة التي يجري فيها سباق التسلح ليس فقط التقليدي‏,‏ ولكن أيضا الذي يشمل أسلحة الدمار الشامل والتهديد باستخدامها‏.‏ وكان معني ذلك أن المهمة التي كرست دول العالم الثالث نفسها لها بعد الاستقلال وهي التنمية واللحاق بالدول المتقدمة ما لبثت أن أخذت لنفسها في الدول العربية مكانا خلفيا ضمن أولويات أمنية ملحة‏;‏ وبعد فترة اختلط الأمر حتي لم يعد معروفا عما إذا كان غياب التنمية نتيجة استمرار الصراع‏,‏ أم أن العكس هو الصحيح‏.‏
التصور هكذا يقطع بأن ما يجري الآن وما يقال عن بداية أخري لعملية السلام ليس إلا محض تخيلات‏,‏ وما يقال عن أن أوباما سيكون جاهزا بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس ليس إلا محض أمان ورغبات توجد لذة في الحديث عنها‏,‏ ولكن الكل يعلم أنها من المستحيلات‏.‏ ولكن حوارات بوسطون لم تكن محملة بالتشاؤم والمرارة فقط‏,‏ ولكن كان هناك من لديه قول آخر أساسه أن الصراع كان فيه دائما تيار ساع نحو السلام‏,‏ قد يضمر أحيانا أو يضعف أحيانا أخري‏,‏ ولكنه كان موجودا في كل الأوقات‏,‏ بل إنه في لحظات بعينها كانت لديه القدرة علي الانطلاق‏.‏ ولذا فإنه علي الأقل لايوجد سيناريو واحد للتعامل مع الموضوع‏,‏ وإنما سيناريوهات عدة‏,‏ علي الحصيف أن يبحث حول أي منها يجب الدفع باتجاهه‏.‏
السيناريو الأول‏,‏ عبثي يري أن هذه القضية انتهت أصلا‏,‏ وأن كل ما يحدث الآن علي صعيد الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لبدء المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين لن ينتج أي تداعيات إيجابية‏,‏ لسببين‏:‏ أولهما‏,‏ أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تري أن الوضع الحالي المتمثل في الانقسام الحاد بين حركة فتح في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة مثالي بالنسبة لها‏,‏ ومن هنا حاولت السير في اتجاهين متوازيين‏:‏ عدم تقديم أي تنازلات رئيسية في الملف الفلسطيني بسبب عدم اقتناعها بجدوي‏,‏ أو ربما بحتمية ذلك فضلا عن إمكانية أن تتسبب هذه الخطوة في انفراط عقدها نتيجة وجود تيارات متشددة داخلها ترفض تقديم أي تنازلات حقيقية في هذا الملف‏,‏ والسعي في الوقت نفسه إلي كسب الوقت مع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي بدأت في منح الأولوية لقضايا وملفات أخري علي حساب القضية الفلسطينية‏,‏ خصوصا مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر‏2010,‏ حيث تتعرض الإدارة الأمريكية إلي ضغوط من داخل الحزب الديمقراطي لتقليص حدة التوتر والخلافات مع إسرائيل‏,‏ بسبب تصاعد الاستياء الأمريكي من السياسات التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية‏.‏ وثانيهما‏,‏ صعوبة التوصل إلي مصالحة وطنية بين حركتي حماس و فتح في الوقت الحالي تنهي الصراع القائم بينهما‏,‏ لاسيما بسبب تبني كل منهما برنامجا سياسيا مختلفا عن الآخر‏,‏ فضلا عن دخول قوي إقليمية متعددة ذات مصالح متباينة علي خط ضبط حدود التفاعل بين الطرفين بما يخدم مصالحها وأجندتها الإقليمية في المقام الأول‏.‏
إلي جانب ذلك‏,‏ فإن ما يضفي صعوبات أخري علي إمكانية التوصل إلي حل للقضية الفلسطينية‏,‏ هو أن النجاح في تحقيق ذلك سوف يتمخض عنه ظهور دولة فلسطينية جديدة طبقا لمبدأ حل الدولتين الذي سيواجه إشكاليات عديدة بدوره‏,‏ أهمها ظهور مخاوف من التداعيات المحتملة لتأسيس الدولة الفلسطينية‏,‏ خصوصا ما يتعلق بمنحها صلاحيات للقيام بأداء مهامها علي صعيد حماية سيادتها وأمنها القومي وتطبيق القانون علي مواطنيها وغيرها‏,‏ وهذا المبرر تحديدا هو ما جعل إسرائيل تصر علي أن تكون الدولة الجديدة‏,‏ في حالة إقامتها‏,‏ دولة منقوصة السيادة بحيث لا تشكل تهديدا لأمنها القومي‏.‏ هذا السيناريو يمكن أن يدعم دعوة بعض الاتجاهات داخل إسرائيل إلي جعل إسرائيل دولة يهودية خالصة من خلال نقل الفلسطينيين الذين يعيشون داخلها إلي المستوطنات الإسرائيلية أو إلي الدولة الجديدة وهو ما سينتج مشكلة جديدة في مواجهة هذه الدولة‏.‏ إلي جانب أن الدولة الفلسطينية الوليدة يمكن أن تتحول إلي كانتونات‏,‏ بسبب وجود الكتل الاستيطانية الكبري وشبكات الطرق المرتبطة بها والحواجز العسكرية إلي جانب الجدار الفاصل‏,‏ وهو ما دفع بعض الاتجاهات إلي تسمية حل الدولتين ب حل الكانتونات‏.‏
من هنا ظهرت رؤي إسرائيلية وعربية ترفض خيار الدولتين‏:‏ الرؤية الإسرائيلية تركز علي أن فكرة الدولة الفلسطينية تفتقد إلي أي منطق ديموجرافي أو جغرافي‏,‏ وأن إسرائيل تسرعت في تبنيها دون دراسة إمكانية تحقيقها وتداعيات ذلك عليها‏,‏ فضلا عن أن هذا الحل يمكن أن يؤدي إلي سيطرة حماس علي الضفة الغربية إلي جانب قطاع غزة بما يضيف إلي رصيدها ولا يخصم منه وهو ما لا يصب في مصلحة تل أبيب‏.‏ الرؤية الفلسطينية العربية‏,‏ تري أن الالتزام بمبدأ حل الدولتين بشكله الحالي فيه إجحاف بالحقوق الفلسطينية‏,‏ ومحاولة للالتفاف علي مبادئ الشرعية الدولية‏,‏ ومن ثم فإن الأجدي‏,‏ وفقا لهذه الرؤية‏,‏ هو الاستعاضة عن إقامة الدولة الفلسطينية بالحفاظ علي ثوابت القضية الفلسطينية‏,‏ لاسيما أن الاتفاقات التي وقعت في إطار المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية مثل اتفاق أوسلو إلي جانب الأفكار المطروحة في هذا السياق مثل خطة خريطة الطريق لم تنجح في التوصل إلي حلول جذرية للقضية الفلسطينية‏.‏
السيناريو الثاني‏,‏ هو إقامة ثلاث دول‏.‏ هذا السيناريو يمكن أن يتفرع منه سيناريوهان‏:‏ الأول‏,‏ يتعلق بتأسيس ثلاث دول هي‏:‏ إسرائيل‏,‏ والضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح‏,‏ وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس‏.‏ والثاني‏,‏ يتصل بما يسميه البعض ب بينولوكس ثلاثي تشبيها بدخول ثلاث دول أوروبية هي‏:‏ هولندا ولوكسبورج وبلجيكا في وحدة اقتصادية عام‏1958‏ تحت مسمي مشروع بينولوكس‏,‏ وهو اسم اشتق من أسماء الدول الثلاث‏.‏ هذه الدول الثلاث تتكون من‏:‏ دولة فلسطينية‏,‏ ودولة إسرائيلية‏,‏ وكونفيدرالية فلسطينية أردنية‏.‏ وقد بدأت بعض الأوساط في الترويج لهذه الفكرة الأخيرة‏,‏ عندما طرحت أطرا إجرائية لتنفيذها مثل تشكيل قوات كونفيدرالية تتولي مهام حماية حدود هذه الكونفيدرالية مع إمكانية إشراك قوات دولية لدعمها‏,‏ فضلا عن فتح الحدود كاملة بينها مع احتفاظ كل منها بنظامها السياسي وقوانينها المحلية‏.‏ وبالطبع‏,‏ فإن هذا السيناريو الأخير يواجه برفض حاسم من جانب الأردن تحديدا‏,‏ حيث أكد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني‏,‏ في كلمة ألقاها بمناسبة عيد الجيش والثورة العربية الكبري والجلوس الملكي في‏8‏ يونيو‏2010,‏ أن بلاده لن تقبل تحت أي ظرف من الظروف بأي حل للقضية الفلسطينية علي حساب الأردن‏,‏ ولن يكون للأردن أي دور في الضفة الغربية‏,‏ مشيرا في الوقت ذاته إلي أنها لن تتخلي عن واجبها ودورها في دعم الفلسطينيين حتي يقيموا دولتهم المستقلة‏.‏
السيناريو الثالث‏,‏ هو إقامة دولة واحدة دعا البعض إلي أن تكون ديمقراطية علمانية تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين في بوتقة واحدة‏,‏ وتحكمها أطر قانونية ودستورية باعتبارها الحل الأكثر ملاءمة لتسوية القضية الأطول في العالم‏.‏ وفي رؤية هؤلاء فإن سيناريو الدولة الواحدة سيتحقق آجلا أو عاجلا‏,‏ بسبب عدم بروز مؤشرات في الأفق توحي بحلحلة الجمود الحالي في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين‏,‏ فضلا عن وجود كتل المستوطنات الكبري في الضفة الغربية التي تجعل من فكرة إقامة دولة فلسطينية أمرا غير منطقي‏.‏ لكن هذه التوجهات تواجه صعوبات عديدة بدورها‏,‏ أهمها إصرار بعض التيارات المتطرفة داخل إسرائيل علي ضرورة تطهير الدولة الإسرائيلية من أي عنصر غير يهودي‏,‏ فضلا عن معارضتها لمبدأ الديمقراطية العلمانية لاعتبارات ديموجرافية خاصة بغلبة العنصر العربي‏,‏ الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلي سيطرة الأغلبية العربية علي مقدرات هذه الدولة‏.‏ وقد دفعت هذه الصعوبات البعض الآخر إلي الدعوة لإقامة نظام ديمقراطية توافقية‏.‏ لكن في كل الأحوال‏,‏ فإن هذا السيناريو في مجمله يواجه إشكالية مهمة تتمثل في إمكانية أن يحول القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلي قضية تمييز عنصري‏,‏ وهو بالطبع ما سترفضه إسرائيل لأنه سيعرضها إلي اتهامات بأنها نظام عنصري وسيدخل علاقاتها مع المجتمع الدولي مرحلة من التوتر والتصعيد لاسيما في ظل الرفض الحاسم من جانب الأسرة الدولية للأنظمة العنصرية‏.‏ وفوق ذلك‏,‏ فإن الدولة الجديدة يمكن أن تتحول‏,‏ في حالة تحقق هذا السيناريو إلي دولة ملجأ نتيجة رغبة عدد كبير من اللاجئين والمهاجرين في العودة إلي أراضيهم من جديد‏,‏ وهو ما سيضيف إشكاليات جديدة في مواجهة سيناريو الدولة الواحدة‏.‏
السيناريوهات الثلاثة وتفريعاتها ليست جديدة تماما‏,‏ ولكنها في مناخ التفكير الأكاديمي الهادئ تحمل رؤي وبدائل لواقع ربما لم يصل إلي طريق مسدود بعد‏,‏ ولكنه لا يوحي إطلاقا بوجود باب مفتوح‏.‏ وربما كانت المشكلة قائمة في أن الباحثين عن حل يتغاضون عن حقيقة أن هناك حلا قائما بالفعل وهو التعايش مع الصراع بشكل أو بآخر كما جري طوال أكثر من قرن‏,‏ جرت فيه مياه كثيرة تحت الجسور‏,‏ وحتي لو صارت المياه نارا ولهبا فقد عرف العالم كيف يطفئها ويعود إلي حياته الهانئة من جديد‏.‏
[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.