أصبحت هذه الفكرة معروفة إلي حد كبير، وتوجد كتابات كثيرة حولها، لكنها لم تتردد بالقدر الكافي في الكتابات العربية، ولم يتم البناء عليها في تحليلات " كبار الكتاب" الذين تحول كثير منهم من مصدر استنارة إلي " أمراء حرب". هذه الفكرة تقرر أن الصراع بين الحضارات هو في حقيقة الأمر _ أو في أصول الأشياء _ هو صراع داخل الحضارات، فأفكار الصدام والتكفير والامتهان وكل الأفكار الخطرة والصور النمطية السيئة التي تشكل ترسانة العمل " ضد الآخر" تبدأ داخل كل حضارة، وتلقي نيرانها الكثيفة ضد الأطراف الداخلية أولا، ثم تتجه بموازاة الحرب الداخلية إلي الآخرين في الخارج، لتبدأ العملية القتالية التي تسمي عادة صراع الحضارات علي الرغم من أنها في واقع الأمر، صراع بين المتطرفين داخل الحضارات. هنا يمكن القفز ببساطة إلي أحد الردود المتوقعة التي تشير إلي أن مشكلة الشرق والغرب كانت قائمة منذ قرون، وأنها عبرت عن نفسها في أشكال ضارية شهدتها الحروب الصليبية والحقبة الاستعمارية، وأنها تصاعدت خلال التسعينيات في ظل نظريات مثل " صدام الحضارات" التي تعبر عن وعي بوجود شئ ما قائم تحت الرماد، وأن سياسات يمينية محافظة وتيارات منفلتة عنيفة في الغرب ساهمت في قيادة الموجة الحالية واعتبرت أن " الخطر الأخضر" يمثل العدو الراهن للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فإنهم هناك هم الذين استهدفوننا هنا، وثمة نقاط أساسية تتعلق بكل ذلك، أهمها : 1 _ أن هناك عوامل خلاف بين الحضارات المتعددة بالتأكيد، علي غرار خلافات المصالح بين الدول، لكن الخلافات _ وليس التوافقات _ هي الحقيقة الأساسية في العالم، والتي لايعني وجودها أن صداما لابد أن يحدث، فالدول تتعايش مع اختلافات المصالح، وتحاول حلها أو تسويتها باستمرار بوسائل مختلفة، لاتقتصر إطلاقا علي الصدامات العنيفة التي أصطلح علي أنها الملاذ الأخير. ويقينا فإن خلافات الأفكار أو الأيديولوجيات قد تكون أحيانا عاملا مستقلا مسببا للمشاكل، لكن فقط عندما تدار بصورة سيئة وبعقول منغلقة، وعندما تجتاحها المصالح السياسية والتمييزات الاجتماعية، لتحملها كأعلام أو كتبريرات، فحرب الأفكار يخوضها محاربو أفكار لديهم تصورات خاصة. 2 _ أن العوامل الداخلية كانت هناك طوال الوقت، فهناك دراسات تاريخية متعددة شديدة الاحترام تقدم تحليلات ذات أهمية بشأن العوامل والصراعات والمزايدات الداخلية التي قادت إلي ظهور تلك الجحافل التي شنت الحروب الصليبية، التي لم تكن من أجل الصليب، أو الصراعات الدولية التي اندفعت من خلالها جيوش الاستعمار نحو قارات العالم المختلفة والأراضي الجديدة، أو التيارات المتطرفة التي اندفعت في اتجاه معاداة الآخرين سواء كانوا الأجانب أو " المنبوذين" في الداخل، أو الشعوب التي تعيش في المناطق البعيدة خارج الحدود، فالمسألة هي أن المشكلات تبدأ في داخل المعسكرات، وغالبا ماتكون هناك دوافع تتجاوز الأفكار التي لاتمثل في كثير من الأحوال عوامل مستقلة. 3 _ أن العملية لم تتخذ شكلا فاعلا هناك وهدفا هنا طوال الوقت، فقد شهد التاريخ العربي والسياسة العربية والثقافة العربية أيضا ظهور توجهات شديدة الحدة تجاه الآخرين، ظهرت في الفتوحات الأولي، ويمكن تفسير سلوكيات عربية بنفس الصورة التي يمكن بها تفسير الهجمات الأوروبية. كما أن أفكارا شديدة التطرف تجاه الآخرين ترتكز علي ثنائيات كدار الإسلام ودار الحرب أو دار الكفر سيطرت في أوقات مختلفة، وهناك بالفعل تيارات واسعة النفوذ وشديدة القوة تعتبر الآخرين في العالم مشركين أو كافرين، وفي النهاية قامت مجموعة من أبناء المنطقة بشن هجمات 11 سبتمبر 2001، وقام آخرون ينتمون لنفس الثقافة بشن هجمات أخري في لندن ومدريد. لكن تظل الفكرة الأساسية، هي أن التطرف ينبع من الداخل، وينتشر في الداخل، ويستهدف الداخل، قبل أن يمتد في اتجاه الآخرين، بفعل وجود نفس نوعية التطرف في "الأراضي الأخري"، وبفعل حساسية القضايا محل الصراع وطبيعة توجهات الشارع، ينجرف الجميع نحو الصراع ليختلط كل شئ بكل شئ. فهناك نظريات شهيرة حول نمو التطرف الديني الذي تفجر بمصر خلال السبعينيات في سجون الستينيات، وعن التحالفات السياسية التي أدت إلي تصاعد التيارات السلفية المتشددة في منطقة الخليج، وعن " التربيطات" التي جرت بين بعض النظم السياسية وتيارات دينية داخلية لمواجهة تيارات أخري ( وهي مسألة لم تقتصر إطلاقا علي مصر)، وعن عمليات غض النظر عن تنامي التيارات الدينية لتجنب المشاكل من جانب دول مختلفة. هناك تفاعلات داخلية أهم أشد ضراوة، فثمة نظم سياسية قررت في وقت ما " ارتداء العمامة" للمزايدة علي التيارات الدينية الداخلية، أو لمواجهة تهديدات خارجية رأت أنها لن تقاوم بشكل فعال إلا من خلال المساجد، وهناك دول قامت بعمليات دعم واسعة النطاق لنشاطات خارجية قامت بها تيارات دينية خارجية لتصدير المشاكل بعيدا عن الداخل، أو لتصدير الغضب تجاه الفراغ الدولي الفسيح، وحملت وقائع رد الفعل الخاصة بمشكلة الرسوم الدانماركية أنماط سلوك سياسي مثيرة. المهم أن ظهور وتنامي قوة من يقودون الصراع بين الحضارات قد ارتبط في البداية بتفاعلات داخلية قوية، سمحت بالسيطرة علي قطاع كبير من الشارع في الداخل، قبل أن تقرر تلك التيارات أن تصيغ " سياسة خارجية" و" سياسة عسكرية" لتبدأ الحرب التي كانت أفكارها وأعلامها دائما نائمة طوال الوقت. لكن المؤشر الأهم بشأن " المقولة" الأساسية التي تمت الإشارة إليها في البداية هي أن التيارات التي تقود صراع الحضارات علي الساحة العالمية هي نفسها التي تقود أيضا صراعات جبارة مكشوفة ومستترة داخل دول الحضارة الواحدة، بشكل أكثر عنفا بكثير مما تشهده الساحة الخارجية، فعمليات الصراع ( أو التفاعل) السياسي القائمة بين تيارات الإسلام السياسي والنظم السياسية القائمة تتردد أصداؤها في كل مكان، كما أن عمليات العنف المسلح التي تشهدها المنطقة داخل دولها أكثر كثافة وعنفا مما تشهده " مسارح الحضارات" باستثناء العمليات الكبري التي شهدت المنطقة أيضا محاولات تم إحباطها منها كمجمع النفط السعودي، يضاف لذلك أن ثمة تيارات تكفيرية تعيث في الأرض فسادا في عدة دول. والأهم أن التقييمات السائدة لدي أوساط بعض تلك التيارات لدول ونظم المنطقة تربط بينها وبين الأطراف الغربية، خاصة الولاياتالمتحدة، فهناك صراع رئيسي مواز يجري داخل كل حضارة، وإن كان الخلاف هو أن " الصراع داخل الحضارة الغربية" لايقارن بتلك الحرب الدائرة داخل الحضارة العربية _ الإسلامية.