صارت السمة المميزة للعلاقات الدولية فى حوض نهر النيل هى الصراع وليس التوافق، بعبارة أخرى، تبدلت العلاقات الدولية للحوض بحبث أخذت تعبر عن نفسها بشكل تتجلى فيه كثرة الموضوعات الصراعية بين الدول، من ناحية، وحدتها، من ناحية ثانية، وتعاظم احتمالات اللجوء إلى أشكال ودرجات من العنف المسلح كوسيلة من وسائل إدارة الصراع أو دفعه للتسوية، من ناحية ثالثة. فى حوض نهر النيل حلت دبلوماسية إدارة الصراع، وما يرتبط بها من موضوعات، محل دبلوماسية إدارة التعاون وما يرتبط بها من آفاق. فى هذه السلسلة سنركز بشكل أكبر على سؤال: ما الاستراتيجية الأفضل لمصر فى إدارة صراعها الدولى الجديد فى حوض نهر النيل؟ للدخول فى هذا الموضوع دعنا نُثر عدة نقاط مرجعية للتحليل. أولا: الصراع الدولى فى حوض نهر النيل يتمحور حول ثلاثة موضوعات كبرى، أولها، الصراع حول إدارة مياه النهر وكل ما يتصل بها من موارد، سواء سمكية أو زراعية أو صناعية أو غيرها، ثانيها، صراع حول الفرص الاستثمارية فى دول حوض النهر، ثالثها، الصراع حول المقتضيات الجيوبلوتكية الجيواستراتيجية الدولية تصويرا لحوض نهر النيل كوحدة استراتيجية متنافسة مع غيرها من وحدات استراتيجية مختلفة فى الحجم والتأثير المفترض على الساحة الدولية. ثانيا: لم ينتقل حوض نهر النيل إلى عهد الصراع الدولى مع التغيرات الهيكلية فى النظام الدولى الجديد من هيمنة عليا للولايات المتحدةالأمريكية على المقدرات الدولية، ولكن انتقل، فى الأساس، مع تغيير نظم الحكم وبناء استراتيجيات مختلفة ومغايرة لشرعية حركه الدولة والمجتمع بغرض بناء أسس جديدة للاتصال الإقليمى داخل الحوض، فالتغيير فى نظم الحكم وبناء توجهات استراتيجية داخلية جديدة وجد أصله التاريخى قبل تبلور عهد النظام الدولى الجديد فى عهده الإمبراطورى الحميد عند كلينتون أو غير الحميد عن بوش الابن. ثالثا: المشكلة المنهجية فى الفهم المصرى فى إدارة قضايا المياه والاستثمار والتنافس الإقليمى والدولى من المنظورين الدولى والعولمى تكمن فى اعتياد مصر تاريخيا على التراوح بين حدين، إما التعاون أو الصراع. ربما لهذا يعتبر السادات استثناء، فمصر لا تستسيغ، بشكل كبير، منطق وفكرة الغموض الضرورى الذى يأتى مع منهج التوافق الإقليمى، ربما يرجع ذلك إلى أصول فى الثقافة السياسية المصرية. رابعا: المشكلة تكون فى فهم معنى الفاعلية الاستراتيجية فى إدارة التبادل بين المياه والاستثمار والتنافس الإقليمى الدولى من حيث إن كل مجال له مقتضياته وقيوده واحتمالاته النابعة من تفاعل قوى سياقه. المعضلة أنه فى كثير من الأحيان ليس هناك اتصال فعال بين خبراء كل مجال، بحيث تتوافر لهم الفرص فى الوصول إلى تصور شامل ومتعدد الأوجه، من ناحية، فضلا عن أنه فى جل الأوقات تظلل غمامة الحسابات القصيرة والضرورية للحركتين اليومية والأسبوعية على منظورات لأوقات أبعد فى الزمن. خامساً: إذا كانت مصر، فى الوقت الحاضر، تميل إلى استخدام مفهوم القوة الناعمة فهى، رغم ذلك، لا تستخدم كل ما تتطلبه القوة الناعمة من أدوات أو اعتبارات، وهذا يرجع إلى أن قوى الدولة والمجتمع فى مصر مشتتة اليقين بين مقتضيات ومحددات القوة الناعمة ومقتضيات وتصورات القوة القاهرة. المعضلة تبرز وتتجلى فى عدم تناسب واضح بين القوة الكامنة والقوة المعبر عنها فى سياسات أو أفعال. المسأله ليست حرباً أو سلاماً، إنما هى مرتبطة ببناء تصور استراتيجى يتسم باتساق داخلى، ومتلائم مع تحولات الأنظمة الإقليمية والمتغيرات العالمية، والتى ليست بالضرورة تكون ذات طابع استراتيجى عسكرى، بل ربما تكون ذات طابع استراتيجى اقتصادى تكنولوجى. فى إطار هذا التصور المفهومى نتقدم لتحليل الصراع فى حوض نهر النيل كصراع استراتيجى متعدد الأوجه ومفتوح. فى المقال المقبل سنشرح أبعاد مفهوم الصراع الاستراتيجى المفتوح ونغرس بشكل أعمق فى مقتضياته.